IMLebanon

الفتور الألماني يهدد نجاح تسهيل كمي وشيك في منطقة اليورو

GermanyEuro2
كلير جونز وستيفان واجستيل

في الفترة المضطربة التي تولى فيها ماريو دراجي منصب رئيس للبنك المركزي الأوروبي، كان دائما قادرا على الاعتماد على دعم لا لبس به من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. لكن ليس بعد الآن.

هذا الأسبوع تتعرض الثقة المتبادلة بين أهم مصرفي أوروبي وأقوى زعيمة سياسية في أوروبا للاختبار في الوقت الذي يكشف فيه البنك المركزي الأوروبي النقاب عن حزمة التسهيل الكمي التي طال انتظارها، في مواجهة اعتراضات ألمانية القوية حول شراء البنك المركزي السندات الحكومية.

لن تعارض برلين بشكل علني الحزمة التي من المتوقع لدراجي أن يكشف النقاب عنها بعد غد في فرانكفورت، لكنها تضغط من أجل شروط صعبة، وهي شروط يخشى البنك المركزي الأوروبي أن تحد من فرصه في النجاح. وقال أحد الأشخاص الذين هم على معرفة بتفكير الحكومة: “لقد أوضحنا أن من المشكوك فيه إجراء التسهيل الكمي”. وأضاف: “يتحدث دراجي مع الناس في برلين، لأنه يعلم ما يدور في ألمانيا”.

المواجهة تأتي في وقت حرج بالنسبة لألمانيا ومنطقة اليورو والاتحاد الأوروبي، لأن الاقتصاد في حالة ركود ومعدلات البطالة مرتفعة وسمعة الاتحاد باعتباره قوة محركة في الاقتصاد العالمي على المحك. وبلغ اليورو في الأسبوع الماضي أدنى مستوى له منذ 11 عاما مقابل الدولار بعد أن أدى قرار البنك المركزي السويسري التخلي عن تثبيت الحد الأقصى للفرنك إلى إزالة مشتر كبير لليورو من السوق. ويوم الأحد المقبل يتوجه الناخبون إلى صناديق الاقتراع في اليونان المثقلة بالديون، والعضو الأكثر ضعفا في منطقة اليورو، في انتخابات يمكن أن تحدد مستقبلها في مجموعة اليورو.

ومع انخفاض أسعار النفط الذي يدفع المنطقة مرة أخرى إلى الانكماش للمرة الأولى منذ خمس سنوات، يرى دراجي في التسهيل الكمي سلاحا قويا في صراعه ضد نوبة طويلة الأمد من انخفاض أسعار من شأنه أن يغرق المنطقة في كساد اقتصادي. ويرى فيه أيضا تعزيزا للقوة الجماعية للمؤسسات المركزية للاتحاد الأوروبي، خصوصا البنك المركزي، والمساعدة في أن يظهر للعالم والناخبين الأوروبيين المتشككين أن الاتحاد لا يزال أكثر من مجموع أجزائه.

لكن الأحداث في اليونان – حيث من المتوقع لحزب سيريزا اليساري، الذي يدعو إلى إعادة هيكلة الديون الوطنية، أن يفوز – أكدت المخاوف الألمانية بشأن التسهيل الكمي، خصوصا الخوف من أن دافعي الضرائب الألمان قد يضطرون إلى امتصاص لكمة من الدول الأعضاء المبذرة. وفي الوقت نفسه، المستشارة ميركل غير مقتنعة مثلما كانت في ذروة أزمة منطقة اليورو، أن الخطر الاقتصادي حاد جدا بحيث ينبغي لها دعم دراجي بأي ثمن. وقال عضو برلماني بارز من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه المستشارة: “في هذا الوقت «ميركل» تعتبر أكثر تشككا”. وأضاف: “انطباعي هو أن لديها بعض الشكوك حول ما إذا كان التسهيل الكمي سينجح”.

مجال للمساومة

بعد لقاء رئيس البنك المركزي الأوروبي في الأسبوع الماضي لكل من المستشارة ميركل ووزير المالية القوي في حكومتها، فولفجانج شُويبْلِه، بات من شبه المؤكد أن دراجي سيساوم على عناصر حزمته لعمليات شراء السندات الحكومة لاسترضاء الجمهور الألماني. لكن المقاومة تبلغ حدا من الشراسة إلى درجة أنه حتى هذه التنازلات ربما لا تكون كافية. إذا وافق دراجي على الانحناء تحت ضغط برلين، فهو يخاطر بالإعلان عن خطط من شأنها أن تخيب الأسواق وتدمر أكبر فرصة للبنك المركزي الأوروبي لتحفيز المنطقة ودفعها نحو انتعاش ذي مغزى. وبحسب ستيفاني فلاندرز، وهي محللة استراتيجية في بنك جيه بي مورجان “تحتاج الأسواق إلى أن ترى أية حزمة للتسهيل الكمي على أنها استمرار للسياسة النقدية وليس شيئا مقيدا بخصوصيات منطقة اليورو”.

لكن بالنسبة لمعظم الألمان التسهيل الكمي ليس هو الحل للضعف الاقتصادي للأعضاء الأكثر ضعفا في منطقة اليورو، بل إن بعضهم يعتقد أنه يشكل تهديدا للاستقرار المالي للعملة الموحدة. ومع ذكريات طويلة من مخاطر التضخم التي يعود تاريخها إلى العشرينيات من القرن الماضي، يشعر الألمان بالخوف من أن إطلاق العنان لمزيد من السيولة في الاقتصاد في منطقة اليورو المشبعة بالفعل، سيؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع رهيب في الأسعار.

علاوة على ذلك، يقول كثير من الألمان إن التسهيل الكمي سيؤجل تخفيضات مؤلمة في الإنفاق والاقتراض من خلال منح الدول الضعيفة مجالا أكبر للمناورة المالية.

وفي تصويت يجري بعد غد، لن يكون رئيس البنك المركزي الأوروبي قادرا على الاعتماد على دعم اثنين من كبار الألمان في البنك – يينس فايدمان، رئيس البنك المركزي الألماني، وسابين لاوتنشليجر، عضوة المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي. ومن شبه المؤكد أن يفوز دراجي بأغلبية في مجلس الإدارة، لكنه حتى لو كان سيؤمن دعما بالإجماع للتسهيل الكمي من محافظي البنوك المركزية في بقية منطقة اليورو المكونة من 19 عضوا، لن يساعده ذلك في برلين – ستشجع المعارضة النقاد الألمان الآخرين وتؤدي إلى تفاقم التحدي المتمثل في كسب الرأي العام في الأمة الأقوى ضمن منطقة العملة. ومن مقره في فرانكفورت، الذي يبعد بضعة كيلومترات فقط من مبنى البنك المركزي الأوروبي الجديد، قاد البنك المركزي الألماني الهجوم ضد التسهيل الكمي.

وقال فايدمان، وهو مستشار سابق لميركل، بشكل علني إن السياسة لن تفعل شيئا يذكر لرفع اقتصاد المنطقة، بل يمكن أن تؤخر الإصلاح. ويشاركه في آرائه الوزير شويبْلِه الذي أوضح استياءه الشديد من تخفيف القيود النقدية في مقابلة مع صحيفة “بيلد”، حين قال إن “المال الرخيص” يجب ألا يستنزف الاستعداد لتنفيذ الإصلاحات.

معارضة ألمانية

ما يقوله فايدمان مهم، لأن البنك المركزي الألماني (بوندسبانك) يتمتع بمكانة الثروة الوطنية، لدفاعه القوي عن المارك الألماني في السبعينيات، ما ساعد على إنتاج عقود من معدلات التضخم المنخفض والنمو القوي قبل إدخال العملة الموحدة. ويقول كليمنس فيويست، رئيس ZEW للأبحاث: “البنك المركزي الألماني يعتبر بالنسبة للألمان رمزا للصلابة”.

لكن رغم كل ما يتمتع به البنك المركزي الألماني من شعبية في الداخل، تم تهميشه في أعلى هيئة في البنك المركزي الأوروبي. واستقال سلف فايدمان، أكسيل فيبر، في وقت سابق بسبب برنامج شراء السندات وبرنامج أسواق الأوراق المالية، جنبا إلى جنب مع زميله الألماني يورجن ستارك، الذي كان في ذلك الحين كبير الاقتصاديين في البنك المركزي الأوروبي.

ليس هناك ما يشير إلى أن رئيس البنك المركزي الألماني الحالي، أو لاوتنشليجر سيتركان منصبيهما في حال أطلق البنك المركزي الأوروبي برنامج التسهيل الكمي يوم الخميس.

وقال هانز فيرنر زين، رئيس معهد إيفو للأبحاث في ميونيخ: “قيل إن البنك المركزي الأوروبي سيتم تأسيسه على نسق البنك المركزي الألماني، وهذا هو السبب في أن ألمانيا قبلت صوتا واحدا لكل دولة من الدول الأعضاء”. وأضاف: “يجري الآن دفع البنك المركزي الألماني نحو أقلية في كل القرارات الكبيرة”.

فقدان البنك المركزي الألماني للنفوذ غذى المخاوف من أن البنك المركزي الأوروبي سيجبر الألمان على دفع ثمن تبذير الآخرين. وقال فيويست: “الفارق الرئيسي في التسهيل الكمي هنا، وليس المملكة المتحدة والولايات المتحدة، هو أن منطقة اليورو اتحاد نقدي”. وأضاف: “يتحدث الناس عن الاختلاف الثقافي العميق، لكن هذا ليس القضية الرئيسية هنا. لو كان لدينا الوضع الاقتصادي نفسه، لكن بدون وجود اليورو، ليس لدي أدنى شك في أن البنك المركزي الألماني سيطبق برنامج التسهيل الكمي”.

أي حل وسط بين البنك المركزي الأوروبي وبرلين يجب أن يركز على تفاصيل التسهيل الكمي، ويبدو من المؤكد أن دراجي سيمضي قدما في الخطة نفسها.

مواضيع النقاش

وركزت المناقشات الأخيرة على التوقيت والحجم وطبيعة البرنامج. وتفضل برلين شراء السندات السيادية على المدى القصير، وليس السندات طويلة الأجل وهو ما تعتبر أقرب إلى كونه مساندة للمالية العامة. كذلك تريد من البنك المركزي الأوروبي شراء السندات من جميع البلدان، وليس من دول الجنوب الضعيفة فقط، لأن هذا من شأنه أيضا أن يوجه ضربة للمساعدة في الميزانية.

والأكثر إثارة للجدل هو إشارة فايدمان إلى أنه سيكون أقل انتقادا لبرنامج التسهيل الكمي الذي يضع عبء الخسائر على البنوك المركزية في البلدان. ففي كانون الأول (ديسمبر) الماضي قال إن أي شيء آخر “قد يؤدي إلى إعادة توزيع للمخاطر بين دافعي الضرائب في الدول الأعضاء”. ومن المتوقع أن ينحني دراجي لطلب رئيس البنك المركزي الألماني، وكذلك لطلب في برلين بأن تتركز مشتريات الديون على السندات ذات آجال الاستحقاق الأقصر.

لكن تحمل البنوك المركزية الوطنية مسؤولية أية خسائر ائتمانية من السندات الوطنية سيؤذي مظهر التضامن عبر الاتحاد الأوروبي. وقد شهدت مخططات سابقة لمكافحة الأزمة التزاما بتقاسم الخسائر، والتخلي عن هذا المبدأ الآن قد يشير إلى أن البنك المركزي الأوروبي ليس ملتزما بالاتحاد النقدي كما كان من قبل. ومع ذلك، يفضل الاقتصاديون المختصون في السوق حلا وسطا بشأن تقاسم الأعباء، بدلا من أن يجري الضغط على دراجي للتراجع عن حجم الحزمة.

وبالنسبة لشراء السندات المفتوحة، على غرار الاحتياطي الفيدرالي، مع التزام من البنك المركزي الأوروبي بالحفاظ على الشراء حتى يسير التضخم في طريقه لتحقيق النسبة المستهدفة، البالغة 2 في المائة، ينظر إليه من قبل كثير من المستثمرين على أنه الشكل الأكثر صدقية من التسهيل الكمي. لكن كمية صغيرة من الأموال يقل حجمها عن 500 مليار يورو من شأنها أن تخيب آمال الأسواق، حتى لو كانت مخاطر أي خسائر محتملة ستكون مشتركة.

وذكرت مجلة “دير شبيجل” الألمانية أن السندات اليونانية ستُستبعَد من التسهيل الكمي. وثمة خيار أكثر احتمالا هو ضم اليونان، ما دامت أثينا تطبق برنامج إصلاح من المفوضية الأوروبية.

من رأي المسؤولين الذين يعملون مع ميركل أن اليورو الآن في وضع أفضل لتحمل جدل يمكن أن ينشب بين برلين والبنك المركزي الأوروبي مما كان عليه في عام 2012. وكان ذلك عندما كانت تدعم دراجي بعد أن قال إنه سيفعل “كل ما يلزم”، وأعلن عن برنامج المعاملات النقدية الصريحة لإنقاذ اليورو. وهم يعتقدون أن المزيد من الدعم للبنك المركزي الأوروبي لن يكون مفيدا، لأن الاقتصادات الضعيفة تحتاج إلى الإصلاح وليس إلى المزيد من المال. وتخشى برلين أيضا من أن التسهيل الكمي سيخفف الضغط ليس فقط على اليونان، ولكن أيضا على فرنسا وإيطاليا لمتابعة الإصلاح الهيكلي.

في عالم مثالي، فإن برلين ترغب في إيجاد مقياس للتسهيل الكمي ليتزاوج من مجموعة من تعهدات الإصلاح المنشطة بدعم من المفوضية الأوروبية. والمسؤولون لن يتوقفوا عن الضغط على أثينا وباريس وروما من أجل الإصلاحات المالية والهيكلية، بما في ذلك خفض الإنفاق. ودعا دراجي أيضا إلى مزيد من السلطة ليتم تسليمها إلى بروكسل لإكراه البلدان على إجراء إصلاحات مؤلمة.

ويكمن القلق السياسي لميركل في صعود حزب “البديل لألمانيا” AfD المناهض للتكامل الأوروبي، الذي فشل بفارق ضئيل في الوصول إلى البرلمان في محاولته الأولى العام الماضي، لكن منذ ذلك الحين فاز بمقاعد في البرلمان الأوروبي والمجالس الإقليمية في شرق ألمانيا. وهو الآن يخوض حملة لأول مقاعد إقليمية له في غرب ألمانيا في انتخابات الشهر المقبل.

مقاومة في برلين

وعلى الرغم من الخطر، معظم كبار السياسيين في الائتلاف المحافظ في برلين ـ الاتحاد الديمقراطي المسيحي، والاتحاد الاجتماعي المسيحي ـ سيكونون على الأرجح حذرين في تعليقاتهم، وإن كان بعضهم سيشذ عن القاعدة.

والمشكك السياسي الرئيسي هو بيتر جاوفايلر، أحد قدامى المحاربين في حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، الذي أدان مرة اليورو باعتباره “أموال الاسبرانتو”. وهو محام ثري، وقاد عدة محاولات فاشلة ليجعل المحكمة الدستورية الألمانية تحظر الإجراءات التي تعزز الصلاحيات الأوروبية على حساب السيادة الوطنية.

وهذا الشهر عانى أحدث انتكاسة له عندما حكم المحامي العام لمحكمة العدل الأوروبية بأن البنك المركزي الأوروبي له الحق بصورة عامة في إجراء المعاملات النقدية الصريحة. لكن من غير المرجح لذلك أن يوقف النقاد الألمان من الاستمرار في المعركة القانونية.

وفي حديث لـ”فاينانشيال تايمز”، رجح كريستوف ديجينهارت، وهو أستاذ قانون في لايبزج يتعاون مع جاوفايلر وغيره في القضايا المعروضة على المحاكم، أن تفتح المجموعة جبهة جديدة بخصوص التسهيل الكمي، بمجرد أن يتم الإعلان عنه. وقال: “البنك المركزي الأوروبي يتجاوز ولايته. هذا ليس من السياسة النقدية. إنه دعم الاقتصادات الضعيفة”.

ومن المرجح أن تكون وسائل الإعلام في ألمانيا معادية. ويميل المعلقون هناك إلى انتقاد البنك المركزي الأوروبي، أحيانا بقسوة، مثلما فعلت صحيفة WirtschaftsWoche المالية الأسبوعية التي انتقدت تخفيض أسعار الفائدة باعتباره “إملاء من بنك مركزي إيطالي جديد، مقره في فرانكفورت” – في إشارة إلى الجنسية الإيطالية لدراجي.

والهجوم الساحر من البنك المركزي الأوروبي أدى إلى أن يجري رئيسه الخجول عادة من وسائل الإعلام، مقابلات لوسائل الإعلام الألمانية. لكن العلاقات العامة لن تفوز بالمعركة بعد. مارسيل فراتشير، رئيس مركز الأبحاث DIW والمسؤول السابق في البنك المركزي الأوروبي، يقول: “إن أغلبية كبيرة من الاقتصاديين والصحافيين لا يحبون «التسهيل الكمي». عدد قليل جدا سيدعمه”.

مع صمت ميركل، فإن عبء الحصول على حزمة التسهيل الكمي بشكل صحيح وبيعها لجمهور ألمانيا المتشكك يقع على عاتق رئيس البنك المركزي الأوروبي. أحد كبار النواب التابع للحزب المسيحي الديمقراطي يقول: “ستسمح ميركل لماريو دراجي القيام بعمله. هذا يعني أنه سيتصدى للمخاطر التي ينطوي عليها وهي لا تفعل ذلك”.