تجلس طفلة صغيرة لا يزيد عمرها على سنتين، في مقعدها الوردي في مقدمة طابور المنتظرين أمام “بان كوتيديانو”، وهو مطبخ تطوعي في ميلانو، حيث تبدو بمنتهى الوضوح آثار الركود الاقتصادي في إيطاليا الذي مضى عليه عشر سنوات.
في تمام الساعة الثامنة من صباح يوم شتوي بارد، حملت الطفلة، من دون قفازات أو قبعة، وبأنف حوله البرد إلى اللون الأحمر، كيسا بلاستيكيا للمتطوعين كي يضعوا لها فيه البرتقال واللبن الزبادي والخبز والجبن والبسكويت.
وراء الطفلة بمسافة قصيرة تقف أمها الشابة وامرأة ترتدي حجابا على رأسها، وتسأل ما إذا كانت تستطيع أن تحصل على حليب إضافي لأنها حامل في الشهر السادس. لكن الإجابة كانت لا، لعدم وجود حليب يكفي الجميع.
يتجمع آلاف من الناس يوميا في ضواحي ميلانو، إحدى المدن الأكثر ثراء في إيطاليا، لينتظروا في طوابير للحصول على الطعام مجانا. يقول جان بيير بيشار، وهو فرنسي وواحد من متطوعي بان كوتياديانو المائة، “إن الجزء الأصعب هو أن تقول لا. لكننا نمتلك إمدادات محدودة وعددا كبيرا للغاية من الناس يأتون للحصول عليها”.
يقول لويجي روسي، الرئيس التنفيذي لمؤسسة بان كوتيديانو، “إن طوابير الانتظار تضاعفت خلال العام الماضي، بسبب تسارع الركود في إيطاليا عقب أزمة منطقة اليورو، وفي بعض الأيام يمكن أن يكون هناك نحو أربعة آلاف شخص ينتظرون”.
ويضيف “اعتدنا أن يكون 70 في المائة من هؤلاء الذين ينتظرون من المهاجرين، أما اليوم فنسبة 50 في المائة منهم إيطاليون”.
وبينما عانى الجنوب طويلا البطالة والاعتماد على دعم الدولة، تعرض شمالي إيطاليا الصناعي إلى ضربة قوية بسبب أزمة منطقة اليورو، التي أدت إلى انهيار آلاف من الشركات. وتعتمد الدولة الإيطالية على الكنيسة الكاثوليكية والعائلة الممتدة من أجل مساعدة المحتاجين. يقول فرانشيسكو جاليتي، محلل المخاطر السياسية لدى “سونار بوليسي” في روما، “إن التضامن داخل العائلة وفر شريان الحياة لمئات الآلاف من العمال، لكن حتى شبكات الأمان تلك تتضاءل بسبب تضاؤل حجم النقد”.
ويعيش نحو 6.2 مليون شخص في إيطاليا في فقر مدقع، أي واحد من كل عشرة أشخاص، وهذا رقم تضاعف تقريبا خلال العامين الماضيين، وفقا لوكالة الإحصاءات الوطنية “إيستات”. إضافة إلى ذلك، يعاني أربعة ملايين من السكان الجوع، 10 في المائة منهم من الأطفال دون الخامسة و14 في المائة فوق الخامسة والستين.
تعتبر الدخول الحقيقية أدنى مما كانت عليه قبل 15 عاما. ويقول مختصو الاقتصاد “إن هناك احتمالا كبيرا لأن تخرج إيطاليا هذا العام من حالة ركود ثلاثي تعرضت لها، لكن حتى أكثر التوقعات إيجابية تقدر حدوث نمو ضعيف. وبالمعدلات الحقيقية، تقلص الاقتصاد الإيطالي على مدى السنوات العشر الماضية”.
ووفقا لبيانات صدرت الأسبوع الماضي، سجل معدل البطالة في البلاد 13.4 في المائة. والمذهل أكثر ربما كمؤشر على المزاج الوطني السائد، هو استطلاع نشرت نتائجه الشهر الماضي “سينسيس”، وهي مؤسسة فكرية إيطالية، أظهر أن 60 في المائة من الذين تمت مقابلتهم يخشون أن ينتهي بهم الأمر فقراء بسبب تراجع الاقتصاد.
ويشير المنظمون لدى بان كوتياديانو إلى أن شعبيتها تعود جزئيا إلى أن الفقراء الجدد يمكنهم القدوم إلى هنا دون الخوف من أن يعرف الجيران، أو أفراد الأسرة أنهم ذهبوا إلى مطبخ خيري.
وفي الوقت الذي يعاني فيه الناس شظف العيش، يزداد الدعم المقدم للمتطرفين والأحزاب المناهضة للمؤسسة السياسية القائمة. وهناك مخاوف من حدوث اضطرابات، لكن الأخطر من الغضب هو مشاعر التسليم بالأمر الواقع، كما يقول فرانشيسكو ديلزيو، الذي ألف كتابا حول الأزمة وأثرها في الشباب ـ خمسة ملايين إيطالي تحت سن 35 لا يدرسون ولا يعملون.
ويضيف “لا يستطيع الإيطاليون التخلص من الشعور بأنهم وحدهم، وأنه لا خيارات لديهم لتحسين أوضاعهم”.
في بان كوتياديانو، يشير بيشار إلى طفلة ويقول، “لا بد أنها في السابعة من عمرها الآن”. لقد كانت هذه الطفلة في طوابير الانتظار للحصول على حصص الإعاشة اليومية مع والدتها منذ أن كانت طفلة حديثة الولادة”. ويتابع “هؤلاء الأطفال كبروا وهم يرون والديهم غير قادرين على إطعامهم (…) من الصعب جدا عليهم أن يتخلصوا من هذا الوضع بأنفسهم”.