شريفة عبد الرحيم – مى حسن – دعاء عبدالمنعم
شهد سوق العمل العالمى العديد من التغييرات كان آخرها ما يسمى باقتصاد «تحت الطلبOn -Demand Economy». وهو اقتصاد ناشئ لكنه ينمو بسرعة ليصبح ظاهرة عالمية سيزيد ارباحها على 340 مليار دولار بحلول عام 2025 بحسب توقعات شركة «برايس ووتر هاوس كوبرز». ويشتمل هذا الاقتصاد على الكثير من العمال والموظفين المستقلين الذين يختارون نوبات عملهم كما يناسبهم لتقديم خدمات متنوعة تبدأ من توصيل الطلبات ولا تنتهى عند الرعاية الصحية لكنها تعتمد اساسا على التكنولوجيا الحديثة من أجهزة ذكية وشبكة الانترنت.
ومما يساعد على نمو هذا الاقتصاد الجديد فى الدول الغربية ان لدى أغلبية سكان الولايات المتحدة وأوروبا نفاذا إلى الإنترنت، وهم يبقون هواتفهم الذكية معهم أينما ذهبوا. لكن الفكرة بدأت تصل الى دول الشرق الاوسط مثل دبى والسعودية، بل مصر ايضا، الامر الذى يدعو الى دراستها ومعرفة ما وصلت اليه الدول المتقدمة.
وتعد «أمازون» من الشركات الرائدة، لكن من أبرز النماذج الموضحة لاقتصاد «تحت الطلب» شركة أوبر «Uber»صاحبة تطبيق الأجهزة الذكية الذى يحمل نفس الاسم، والذى يوفر خدمة السائق الخاص حسب الطلب فى حوالى 100 مدينة حول العالم.
وتقوم فكرة الشركة على استغلال المستخدم لتطبيق يثبت على الأجهزة الذكية، مثل التليفون أو الآى باد، ومن ثم التسجيل فى الخدمة عن طريق إدخال بياناته الشخصية ورقم بطاقة الائتمان، وبعد ذلك يمكن للمستخدم رؤية موقعه الجغرافى على خريطة تظهر أيضًا السيارات التابعة لشركة «أوبر» والمنتشرة فى الجواروأصحابها افراد يقدمون خدمات للنقل بسياراتهم الخاصة. وعند وصوله لوجهته، يمكن للراكب مغادرة السيارة دون أن يدفع أجرة النقل نقدًا، لأن العملية تتم تلقائيًا عبر التطبيق الذى يخصم الأجرة من رصيده المصرفي..
آفاق النمو الكبيرة التى تتمتع بها مثل هذه الشركات الناشئة مكنت شركة «أوبر» التى تأسست عام 2009 من الحصول على تمويل بقيمة 258 مليون دولار فى شهر أغسطس الماضى من قبل شركة جوجل وغيرها من المستثمرين. وقد قدرت قيمة الشركة الامريكية التى تتخذ فى مدينة سان فرانسيسكو مقرا لها بشكل غير رسمى بـ 40 مليار دولار.
نموذج آخر هو شركة «إيربى إن بي» وهى شركة تقنية تساعد العملاء على العثور على الأماكن المناسبة للعيش أثناء التنقل أو السفر فى رحلات. فعن طريق تطبيقها على الويب أو التليفون المحمول يمكن العثور على شقة أو غرفة للمبيت ليلة أو أكثر فى آلاف المدن فى 192 دولة.
وبعد أن تلقت الشركة مؤخراً مبلغ 200 مليون دولار كتمويل ايضا اتخذت مقرا رئيسيا جديدا فى سان فرانسيسكو.
كما تنتشر الآن خدمة توصيل الطلبات التى تقدمها شركة انستاكارتInstacart فى بعض المدن الأوروبية، بعد أن كانت قد بدأت فى الولايات المتحدة. وتعتمد على قيام أشخاص بالتسوق لأشخاص آخرين لا يعرفونهم، وتوصيل ما تم حجزه مقابل مبالغ متفق عليها.
على صعيد آخر وبالرغم مما توفره تلك الشركات من خدمات بكفاءة وتكلفة منخفضة فإنها أثارت مخاوف عديدة نظرا لعدم دفع المشاركين فيها للضرائب وعشوائية تنظيمها حتى الان بالاضافة الى ما يتعلق بحقوق العمال والثقة فى مقدمى الخدمة.
وعلى سبيل المثال تواجه «أوبر» تهمة ممارسة مهنة تسيير سيارات الأجرة بطريقة غير قانونية فى بعض الدول مثل تايلاند التى اعتبرت نشاطاتها غير قانونية كما وضعت عراقيل إدارية امامها فى ألمانيا وهولندا وبلجيكا والبلدان الاسكندنافية، على سبيل المثال. والخدمة تم اطلاقها فى ابريل 2014 فى اسبانيا وتم حظرها هناك مؤخرا لنفس الاسباب.
ولكن على صعيد المبيعات حققت «أوبر» مبيعات تتجاوز المليار دولار فى عام 2014 وذلك بحسب تقرير لمجلة الايكونومست الذى ناقش أبعاد تلك الظاهرة لتقديم خدمات من خلال منصات إلكترونية على شبكة الانترنت حيث تسعى مجموعة من رجال الأعمال إلى الجمع بين قوة نفاذ الانترنت والعمال الذين يعملون لحسابهم الخاص لتقديم خدمات كانت حكرا على الأثرياء (مثل السائق الخاص).
ولكن كما يقول التقرير فإن مفهوم «اقتصاد تحت الطلب» أوسع بكثير من الفخامة فى بعض الأحيان ويشمل شركات تربط ما يصل الى ملايين العمال بآلاف الشركات.
وفكرة ربط الناس مع بعض والمشاركة لحل مشاكلهم تبدو بسيطة. ولكن، مثل الإنتاج الضخم لها آثار واضحة على كل شيء بدءا من تنظيم سوق العمل إلى طبيعة العقد الاجتماعى فى المجتمع الرأسمالي.
مسألة العمالة المستقلة ليست جديدة ولكن هناك عاملين ساعدا على تحولها الى ظاهرة متزايدة الانتشار فى قطاعات مختلفة من الاقتصاد. الأول هو التكنولوجيا. فالقدرة الفائقة على التواصل تتيح للناس الآن الاستفادة من الموارد المتاحة بشكل أفضل للطرفين، وعلى سبيل المثال عن طريق شركة «اوبر» يستطيع الناس تأجير سياراتهم الخاصة، وInnoCentive تتيح لهم استئجار المساحة الخالية من الدماغ، وشركات أخرى يمكن عبرها الحصول على قروض واستثمارات من عامة الناس بدلا من المؤسسات المالية التقليدية.
العامل الثانى يكمن فى حدوث تغييرات فى السلوكيات الاجتماعية. ومثلما قال من قبل كارل ماركس إن العالم سينقسم إلى قسمين الناس الذين يملكون وسائل الإنتاج وهم الطبقة الغنية والناس الذين يعملون فى خدمتهم. الواقع انه مقسم بين أشخاص يملكون المال ولكن ليس لديهم وقت كاف وآخرين لديهم الوقت ولكن ليس المال. «اقتصاد تحت الطلب» يوفر لهاتين المجموعتين وسيلة المقايضة بعضهما مع البعض.
ويرى التقرير ان هذا سيدفع شركات الخدمات الالكترونية الجديدة الى التركيز على ميزاتها التنافسية . ومن ثم سوف تنخفض «تكلفة صفقة» استخدام شخص خارجى للقيام بمهمة ما (فى مقابل الحفاظ على تلك الوظيفة داخل الشركة) . فهى لا توظف المحامين المتفرغين والمحاسبين الذين يتقاضون أجورا وامتيازات مضمونة. وهكذا توفر تكلفة الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية الخاصة بهم . غير ان دفع المخاطر التى تتحملها الشركات مرة أخرى إلى الأفراد، له عواقب بالنسبة للجميع.
الموضوع يثير جدلا سياسيا – شركة «أوبر» هى الاكثر إثارة له – حتى ان العديد من الدول والبلدان فرضت حظرا على نشاطها لأسباب تتعلق بالسلامة أو لأسباب تنظيمية. ونظم سائقو سيارات الأجرة مظاهرات ضدها.
والحقيقة أن المستهلكين هم الفائزون وكذلك العمال الذين يعطون أولوية للمرونة على الأمن، مثل النساء الذين يرغبون فى الجمع بين العمل وتربية الأطفال . وسوف يستفيد دافعو الضرائب إذا تم تنفيذ الفكرة لتحسين الكفاءة فى تقديم الخدمات العامة. لكن بالنسبة للعمال الذين يفضلون الأمان على المرونة- بمن فى ذلك الكثير من المحامين والأطباء وسائقى سيارات الأجرة- سوف يشعرون بأنهم مهددون ومخاوفهم هذه ستكون مبررة.
ويسفر «اقتصاد تحت الطلب» عن بعض أشكال «الظلم» ففى نهاية المطاف سوف يدعم دافعو الضرائب العديد من العمال المتعاقدين الذين لا يدفعون نصيبهم من المعاشات التقاعدية.
وهكذا أوصى تقرير الايكونومست بضرورة تغيير الحكومات لطرق قياس معدلات التوظيف والأجور مؤكدا ان العديد من الدول الأوروبية لديها أنظمة ضريبية تتعامل مع العمال المستقلين كمواطنين من الدرجة الثانية، بينما لدى أمريكا قواعد مختلفة لـ»عمالة العقود» . ومع اعتماد جزء كبير من دولة الرفاه على أرباب العمل، وخاصة فيما يتعلق بمعاشات التقاعد والرعاية الصحية، بالتالى من الواجب ان تكون هذه الامور فردية ولا يتم الاعتماد على الشركات فقط فى تقديمها (وهو ما يوفره بالفعل برنامج اوباما كير من شراء تأمين صحى لأولئك الذين لا يعملون بدوام كامل).
تقرير الايكونومست حذر ايضا انه حتى اذا قامت الحكومات بتعديل سياساتها فسوف يفرض «اقتصاد تحت الطلب» المزيد من المخاطر على الأفراد. وذلك مع اضطرار الناس الى إتقان مهارات متعددة وتطويرها باستمرار وتحمل مسئولية تثقيف أنفسهم، وتعلم كيفية الترويج لأنفسهم، من خلال الشبكات الشخصية أو وسائل الاعلام الاجتماعية، وإذا كان المرء طموحا حقا يمكن ان يعمل على ان يكون هو نفسه علامة تجارية. ففى عالم أكثر مرونة الجميع بحاجة إلى أن يتعلم كيفية إدارة نفسه كشركة.