أشار تقرير لصحيفة الفاينانشال تايمز الى مدى خطورة ارتفاع ديون دولة ما موضحا اختلاف الوضع بالاعتماد على الديون المحلية أو الخارجية ،والامر قد يؤثر فى قدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية .القضية تناولها التقرير من خلال محاولة الإجابة على سؤال مهم وهو متى تعلن دولة إفلاسها وهل هو قرار اقتصادى ام سياسى ،وربما كان الأهم هو متى يصبح الدين العام لدولة ما خطرا» حقيقيا» .
وتعد البرتغال من الدول المثقلة بالديون والتى تضررت كثيرا» بعد الأزمة المالية العالمية من أزمة منطقة اليورو. وبالرغم من حصولها على حزمة إنقاذ اوروبية العام الماضى الا ان شبح الأزمة لا يزال يخيم عليها مع ارتفاع نسبة ديونها الي 130٪ من ناتجها المحلى الاجمالى وهى نسبة تعتبر بين اعلى المعدلات فى العالم.
ومما يثير القلق هنا انه بالرغم من انخفاض تكاليف الاقتراض فى أوروبا الا ان خدمة ديون البرتغال تفوق مخصصات بند مهم كالتعليم فى موازنة الدول .
وهكذا وبالرغم مما تبذله الحكومة من جهود لجذب المستثمرين الا ان ارتفاع مستوى ديونها يثير القلق ويحول دون استعادة ثقتهم فى الوقت الحالى.الامر الذى يثير التساؤل متى تعلن دولة ما إفلاسها ومتى تصبح ديونها أكبر من السداد؟
على عكس عالم الاعمال لا توجد اجابة محددة . ومع ذلك يبدو ان السؤال بات ملحا» أكثر من اى وقت مضى فى دول كثيرة من أوكرانيا الى فنزويلا ومن جامايكا إلى غانا وليس فى أوروبا فحسب ، حيث تعانى عدة دول من وطأة الديون مع توالى الأزمات الاقتصادية .
وتكشف أزمة اليونان الحالية عن خطورة ارتفاع مستوى ديون دولة ما . فبالرغم مما حظيت به فى عام 2012 من أكبر إعادة هيكلة للديون فى التاريخ ، الا ان ديونها لا تزال عند حوالى 174٪ من الناتج المحلى الإجمالى للبلاد .وهو ما ساعد على ارتفاع شعبية حزب اليسار الراديكالى عندما نادى بـ «عدم السداد» قبل الانتخابات التى ستجرى نهاية الشهر الجارى .
ويرى بيتر دوفيل ، مسئول سابق فى صندوق النقد الدولى ، ان هناك العديد من الدول فى منطقة اليورو فى خطر أو على حافة الهاوية.وقد وضع الصندوق بالتعاون مع صحيفة الفاينانشال تايمز قائمة بالدول التى لايثق بها المستثمرون وذلك بناء» على عدة عوامل من بينها: النمو الاقتصادى ، تكلفة الاقتراض وخطة التقشف التى تنتهجها ومدى قسوتها بالاضافة الى السيناريوهات المقترحة للسيطرة على ديونها او زيادتها،ومع ذلك لا يمكن التحديد بدقة متى تعلن دولة إفلاسها.
كان لرئيس سيتى جروب السابق والتر ستون مقولة شهيرة وهى ان الدول لا تفلس . ونظريا» هذا ما يحدث لأن الدول لا تخرج من السوق وتختفى عن الوجود مثل الشركات .ومع ذلك فإن التاريخ مليء بنماذج حكومات تخلفت بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن سداد ديونها.
فبدراسة تاريخ 176 دولة بين عامى 1820 و2013 يتبين وجود 248 حالة تعثر عن السداد لأكثر من مائة دولة . بعض الدول شهد حالات إفلاس متكررة ، وعدد قليل من تلك الدول يتمتع حاليا» بسمعة جيدة.
ويقول خبراء صندوق النقد الدولى انه يجب على الدول المتقدمة ان تحافظ على ديونها عند أقل من 85٪ من ناتجها المحلى الاجمالى فى حين يجب الا تزيد ديون الاقتصادات الناشئة عن 70٪ .
وبحسب بحث اكاديمى اجراه الاقتصاديان كينيث روجوف وكارمن راينهارت فإن متوسط الدين الخارجى الى الناتج المحلى الاجمالى للدول التى تعثرت خلال الفترة من عام 1970 الى 2008 كانت 69.3٪ . وهذه النسبة لا تشمل الديون المحلية ، وهى سياسة ثبت انها أقل إثارة للمشكلات لأن الحكومات ببساطة تطبع النقود التى تحتاجها لسداد التزاماتها المحلية لكن ذلك يؤدى الى ارتفاع معدل التضخم بدلا» من «التعثر» عن السداد.
وحتى بدون تعويم العملة ، اللجوء الى الاقتراض المحلى من شأنه ان يكون اقل اثارة للأزمات نظرا» لاستعداد المستثمرين والمودعين المحليين لتمويل حكوماتهم فى الأوقات الصعبة عن الأجانب .
ومن العوامل المساعدة فى اللجوء إلى الاقتراض المحلى توافر وعاء كبير من الودائع المحلية .
ويقول خبراء صندوق النقد ان مدى خطورة الدين السيادى يعتمد على تركيبته (نسبة الدين المحلى والخارجى) وعلى معدل النمو ، اسعار الفائدة ، الموازنة الاساسية (قبل حساب خدمة الدين) تكاليف الاقتراض وازمات العملة ، وهى عوامل تشير الى مدى اقتراب دولة ما من الافلاس .والعامل الاساسى فى تقييم مدى خطورة الوضع ليس فى حجم الدين السيادى فحسب وانما فى هيكله ، فربما لا يبدو مستوى الدين كبيرا» لكن موعد سداده فى المدى القريب ومن الصعب تمديد أجله.
أوضح التقرير ان الدين السيادى كرقم أو نسبة من الناتج المحلى الاجمالى قد يكون مضللا» . فديون القطاع الخاص قد تتحول الى عبء على الدولة فى أوقات الازمات – خاصة عندما يتعلق الامر بقطاع البنوك – وتشعر الحكومة انها مضطرة الى انقاذها مثلما حدث فى ايرلندا واسبانيا خلال أزمة منطقة اليورو.
ويبدى اقتصاديون مخاوفهم ان تكون الدول المقبلة على خطر الافلاس من الدول النامية . وفى حين ان نسبة الدين الحكومى الى الناتج المحلى الاجمالى 48٪ وفقا» لتقديرات تقرير جنيف الأخير إلا أن إضافة الدين المحلى تقفز بالنسبة إلى 151٪ – حتى مع استبعاد ديون البنوك –
» التعثر « دائما قرار سياسى فى المقام الأول، بعض الدول قادرة ولديها الرغبة فى فرض تخفيضات مؤلمة فى الانفاق وزيادات حادة فى الضرائب لسداد ديونها دون الأخذ فى الاعتبار تأثير تلك الإجراءات على الاقتصاد ، فى حين تفضل دول أخرى إعلان إفلاسها بمجرد نشوب الأزمة.
ومثال على الحالة الأولى رومانيا التى قرر رئيسها فى الثمانينيات سداد 9 مليارات دولار فى موعدها على حساب التقشف حيث امضى الشعب فصل الشتاء دون تدفئة مع إغلاق جزئى للمصانع توفيرا» لمصادر الطاقة . اما المثال على الخيار الثانى فكانت الاكوادور التى قررت وبشكل مثير للجدل ان ديونها الخارجية « غير شرعية « وتخلفت عن السداد فى عام 2008 بالرغم من عدم وجود أى ضغوط شديدة عليها.
ويقول روجوف ان هناك مستويات من الدين الخطر . فاذا كانت مقومات دولة ما قوية ، لا يوجد خطر من حدوث أزمة دين . لكن اذا كانت ضعيفة يكون احتمال الأزمة كبيرا .ومع ذلك هناك منطقة رمادية اللون وهى عندما تكون دولة أكثر عرضه للأزمات لكنها لا تحدث ابدا .
» النمو» – الحل الامثل لمشكلة تفاقم الديون – لا يتحقق بعصا سحرية ويصعب الوصول اليه عند الحاجة الشديدة ، ولكن هناك نماذج لدول نجحت فى تلك المهمة الصعبة . مثل تركيا التى كانت على وشك الافلاس فى مطلع الالفية ، حتى انه فى عام 2001 وصلت تكلفة الفائدة السنوية فى مزاد للسندات الى 130٪. وبفضل برنامج انقاذ ضخم من قبل صندوق النقد الدولى ومجموعة من الاصلاحات الجادة تراجعت تركيا عن حافة الهاوية . وفى غضون عدة أعوام استعاد الاقتصاد عافيته وحقق نموا لفترة طويلة. ولكن باعتراف وزير سابق فإن قوة الاقتصاد العالمى فى ذلك الوقت ساعدت تركيا كثيرا وهو ما لا يتوافر حاليا لاسيما بالنسبة لدول منطقة اليورو .
بالرغم من انخفاض تكاليف الاقتراض الا ان ديون دول مثل اليونان ، البرتغال، اسبانيا وايطاليا مستمرة فى الارتفاع ، حيث يلتهم عبء الديون الايرادات على حساب الخدمات العامة.
حاليا» المستثمرون مرة أخرى لديهم ثقة فى سندات منطقة اليورو لكن الناخبين قد يحتجون ضد مطالبة الدائنين بحصة أكبر من الماليات العامة.
ويحذر المحامى ليى بوتشيت الذى تلجأ اليه كثير من الدول لتقديم المشورة بشأن إعادة هيكلة ديونها ، بأن «إنكار الواقع « هو العامل المشترك بين معظم الدول المتعثرة حيث تدرك حجم المشكلة بعد فوات الأوان.
حذر تقرير لبنك باركليز من اتساع دائرة مشكلة الديون فى العالم موضحا انها لا تتعلق بالدول الطرفية الاوروبية مثل البرتغال واليونان وايرلندا وانما بدول رئيسية كذلك مثل فرنسا وبلجيكا وحتى هولندا. حيث يواجه صناع السياسة اشكالية فرض التقشف الحاد للسيطرة على الديون لكنه يؤدى الى ضعف النمو ام زيادة الانفاق الذى يعزز النمو لكنه يفاقم من مشكلة الديون .
وهكذا فإن هيكلة الديون تتطلب مهارة عالية عندما يكون أكبر حاملى السندات بنوك محلية وشطب جزء كبير منها يعرض تلك البنوك للإفلاس .