IMLebanon

كتاب «تزوير الرأسمالية»: استعراض لكل التناقضات وتوفيقٌ صعب بين مصالح الأفراد ومنافع المجتمع

ForgingCapitalism
دانييل بن آمي
يعترف المراقبون المخضرمون للرأسمالية بوجود توتر في صلبها. اذ على الرغم من أن اقتصاد السوق يستند في أساسه الى السعي وراء المصلحة الذاتية، فان شرعيته تعتمد على مقدار ما يقدمه من فوائد ومنافع للمجتمع بنطاقه الواسع.

وقد تم فهم هذين العنصرين المتناقضين منذ النصف الثاني للقرن الثامن عشر. آدم سميث، الذي يعتبر بنظر الكثيرين مؤسس الاقتصاد الحديث، أثار مسألة حازت شهرة كبيرة في كتابه «ثروة الأمم»: «اننا لا نتوقع أن نحصل على غذائنا من نزعة الخير أو احسان الجزار أو صانع الجعة أو الخباز، بل من سعيهم وراء مصالحهم الذاتية. نحن لا نخاطب انسانيتهم، بل حبهم لذواتهم». لكن وفي مراجعة نالت شهرة أقل في كتابه المهم الآخر «نظرية المشاعر الأخلاقية»، ركز سميث على العامل الأخلاقي وليس على أنانية المنافع الشخصية، ورأى في الفضيلة والاستقامة ضرورة لضبط المصالح الذاتية.
يوضح التاريخ اللاحق للرأسمالية باسهاب كلا من المنافع الواسعة النطاق لاقتصاد السوق والمشاكل التي قد تنجم عن تغليب المصالح الذاتية وتحولها الى أنانية.
ليس هناك من شك في أن مستويات المعيشة للشعوب زادت بشكل هائل عبر العقود الزمنية المختلفة. حتى الشريحة الأكثر فقرا في المجتمع باتت تملك قدرة على الحصول على ممتلكات مادية لم يكن يحلم بها أثرياء القرن الثامن عشر. من جهة أخرى، هناك دائما ذلك الاغراء الذي قد يغوي أولئك الساعين وراء الربح الشريف والمصلحة الذاتية النزيهة بتخطي الحدود الى الجشع والاحتيال.

كتاب «تزوير الرأسمالية» عبارة عن تاريخ ممتع وجذاب يبين كيف حاولت بريطانيا التغلب على هذا التوتر في القرن الذي سبق اندلاع الحرب العالمية الأولي. عنوان الكتاب فيه تورية وتلاعب في الألفاظ. فهو عبارة عن دراسة للمحتالين والنصابين والفاسدين الذين حاولوا الاستفادة من اقتصاد السوق من خلال الخداع والغش. كما يتناول أيضا كيف تم تزوير الرأسمالية نفسها من خلال آليات متطورة للحد من تلك النزعات والميول غير الشريفة.

ضم كتاب ايان كلاوس، أحد موظفي تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية وأكاديمي سابق في جامعة هارفارد، العديد من المحتالين النابضين بالحيوية. ومن بينهم اللورد توماس كوكرين، الذي حاول في عام 1814 الاستفادة والتنفع من انتشار اشاعات كاذبة تتعلق بموت نابليون. فمع قرب انتهاء حروب نابليون كان لتلك الأخبار تأثير بالغ على أسعار الأصول. باع كوكرين وبسرعة ملكيته في أومنيوم، وهي شكل من أشكال الأوراق المالية الحكومية، التي ارتفعت أسعارها نتيجة تلك الأخبار الزائفة.

واذا كانت هذه القصص تبدو مألوفة، فذلك لأنها ربما قدمت مادة خام لبعض أبرز الشخصيات في الأدب الانكليزي. اذ استوحى روائيون مثل تشارلز ديكنز ووليام ثاكيراي وأنتوني ترولوب كتاباتهم من بعض نفس تلك الشخصيات والحكايات.

الجانب الآخر من قصة كلاوس تتناول كيف تطورت الآليات المختلفة لمعالجة الانتهاكات التي تتعرض لها الثقة. ففي أوائل القرن التاسع عشر كان هناك اهتمام وتركيز كبير على المكانة والفضيلة والأخلاق. كانت مكانة المشاركين في المعاملات هي التي تعزز تلك التعاملات وتدعمها، وكان يتوقع من المشاركين في السوق ان يتصرفوا باستقامة ونزاهة.

بحلول منتصف القرن التاسع عشر، أفسحت هذه المفاهيم المجال للسمعة. فرغم أن المفهوم لم يكن جديدا، الا أنه أصبح أكثر أهمية وبروزا. فتزايد أعداد من يعرفون القراءة والكتابة والتطور التكنولوجي لعب دورا مهما في هذه المسألة. وكان يعني انتشار الصحافة أن الأخبار التي تتعلق بسمعة شخص ما يمكن نقلها بسهولة الى الرأي العام.

ويضطر المشاركون في السوق على نحو متزايد الى صقل وتحسين امكانات ووسائل الثقة والحماية ضد الاحتيال لديهم. الثقة كما نعرفها اليوم هي ارث متطور لقدراتنا المتكررة للارتقاء الى التحديات الرأسمالية لانقاذ أرواحنا.

أخيرا، حدث في الجزء الأخير من القرن تحول الى ما أطلق عليه كلاوس التثبت من الحقيقة. هذا الشكل من التنظيم هو الأقرب لما هو موجود اليوم، كمؤسسات من قبيل وكالات تصنيف الائتمان ووسائل الاعلام المختصة بالشؤون المالية، للتحقق من صحة ودقة المعاملات. وكان هناك أيضا وسائل تكنولوجية، مثل بصمات الأصابع للتحقق من هوية الفرد. كانت هي تلك الفترة التي لعبت فيها الدولة دورا أكثر أهمية في التحقق من صحة المعلومات ودقتها.

عنصر الضعف الوحيد في كتاب «تزوير الرأسمالية» يتمثل في أنه يقلل من مدى تحول اقتصاد السوق خلال القرن الذي يتناوله كلاوس في بعض الأحيان يشير الى رأسمالية السوق الحرة، كما لو كانت نظاما لا يزال قائما وموجودا. الا أنه كان واضحا مع نهاية القرن التاسع عشر أن الدولة كانت تلعب دورا مركزيا في الاشراف ودعم الأنشطة الاقتصادية. وحتما كان دور الحكومة عشية الحرب العالمية الأولى أكبر بكثير من الدور الذي لعبته قبل قرن من ذلك.

هناك مجال كبير لمناقشة ما اذا كان هذا التحول مرغوبا فيه أو حتى حتميا ولا مفر منه. لكن من المدهش حقا كيف يبدي قلة من المعلقين المعاصرين استعدادا للاقرار به.