أنطوان فرح
هناك ملفان اقتصاديان من حيث الشكل، تتداخل فيهما المصالح الخاصة والتجاذبات السياسية، استقطبا الاضواء في الاسابيع القليلة الماضية. الملف الاول يرتبط بمصنع الاسمنت في زحلة، والملف الثاني يتعلق بردم الحوض الرابع في مرفأ بيروت. في الملفين، هناك قاسم مشترك لجهة المعارضة اللافتة التي تواجههما، ولجهة عدم سقوطهما رغم هذه المعارضة. السؤال، ماذا يعني عدم سقوط المشروعين حتى الآن؟
في موضوع الحوض الرابع، لم يتم تسجيل تطورات ذات أهمية في الايام القليلة الماضية، وكل فريق يحاول ان يُجمّع أوراق قوة يستطيع ان يواجه بها. لكن اللافت في هذا الملف، انه تجاوز النقاشات الاقتصادية والتقنية، ولم يعد السؤال المطروح، هل أن ردم الحوض الرابع يهدف الى المنفعة العامة، ام العكس، بل ان السؤال المحيّر اليوم، صار التالي: هل تعجز الاحزاب المسيحية مجتمعة، وبقيادة بكركي عن وقف تنفيذ قرار ردم حوض في مرفأ؟ ولماذا تصر قوى سياسية من خارج المعسكر المسيحي على هذا المشروع، وتجازف سياسياً للابقاء على قرار الردم قائما؟
هذا الملف يمكن أن يُحوّل الى لجان متخصصة، وأن يخضع للدرس مجددا لتبيان الجدوى الاقتصادية، والمنافع والأضرار، وفي ضوء النتائج يمكن اتخاذ القرار المناسب. لكن المشكلة حالياً، صارت أعمق وأخطر من مجرد دراسة اقتصادية، انها قضية مبدئية تتعلّق مجددا بموقع القوى السياسية المسيحية في الدولة، خصوصا في ظل غياب رئيس للجمهورية.
وفي المفهوم السياسي الطبيعي والمنطقي، يُفترض أن يكون مشروع الحوض الرابع قد سقط، بمجرد ان اعترضت عليه القوى السياسية التي تمثل الغالبية المسيحية في البلد، خصوصا مع وجود بكركي في القضية. وأي كلام عكس ذلك، ليس في محله، ولا يعكس مناخا ملائما يُبنى عليه في الشراكة في الدولة.
سر جبّالة الباطون
في المقلب الآخر، تبرز قضية جبّالة الباطون في زحلة كنموذج آخر يُفترض أن تتم معالجته من زاوية اقتصادية-بيئية، الا انه تحوّل الى معضلة غريبة في الظروف التي رافقت ولادة الرخصة، وصولا الى الحصانة التي تتمتع بها هذه الرخصة التي تأبى السقوط رغم انها صارت وحيدة في مواجهة معارضة موحدة قلّما شهدتها عاصمة الكثلكة منذ حقبة طويلة.
لائحة المعترضين على «الجبالة» صارت تضم في زحلة، الكنيسة، نواب المدينة – باستثناء الوزير والنائب نقولا فتوش طبعا صاحب المشروع – الكتلة الشعبية برئاسة الوزير والنائب السابق ايلي سكاف، البلدية التي تراجعت عن الموافقة على المشروع، وصارت في صفوف المعترضين، واهالي زحلة الذين يوقعون حاليا عريضة احتجاج للمطالبة بوقف الجبّالة.
في الاساس، عندما تعلن الكنيسة موقفا، ومعها النواب وكتلة سكاف والبلدية، فهذا يعني حتما بالمنطق والعقل ان الزحليين بغالبيتهم صاروا ضد الجبّالة. من خارج زحلة، تضمّ لائحة المعترضين المجلس الاعلى لطائفة الروم الكاثوليك، الاحزاب السياسية التي لديها تمثيل اساسي في زحلة، وفي مقدمها حزب القوات اللبنانية، الوزير ميشال فرعون الذي ترأس اجتماع المجلس الاعلى بحضور سكاف ليعلن معارضة المشروع ويطلب سحب الرخصة من الجبّالة.
هكذا تكون قوى 8 و14 آذار قد التقت هنا أيضا على رفض مشروع تعتبر انه مضر وسوف يُلحق الأذى بالمدينة وأهلها. ومع ذلك، لم تسقط رخصة الجبّالة، وهي لا تزال قائمة ما دام وزير الصناعة حسين الحاج حسن لم يبادر بعد الى التراجع عن الترخيص الذي منحه لفتوش، وهو من اسرع التراخيص في تاريخ الجمهورية، اجتاز المساحات الزمنية بسرعة قياسية لم تعهدها الادارة اللبنانية من قبل.
في هذا الموضوع أيضا، يمكن القول ان الجبّالة يجب أن تسقط، بصرف النظر عن الدراسات الاقتصادية والبيئية التي يمكن ان تُجرى حولها لتقدير منافعها وأضرارها.
لكن في موضوع الجبّالة، وكما هي الحال في ملف الحوض الرابع هناك دائما قطب مخفية. ويبدو ان مشكلة جبّالة زحلة تقع خارج الحدود، حيث لا يزال للكلام الآتي من هناك تأثيره ووقعه. واللافت ان الرخصة الممنوحة للمشروع تتجاوز محدودية اقامة جبّالة وتصل الى مستويات اوسع وأشمل.
اذ تنص الرخصة على السماح لـ«شركة التطوير والتعمير»، بانشاء مستودعات وخزانات وآليات تكسير وجرش، «وهي منشآت صناعية مسموح لها بالارتفاعات وفق الدراسات والحاجات مهما علت… ومستودع صناعي كمنطقة حرة للمواد الاولية والجاهزة والمصنعة…مع السماح بتركيب محطة توليد الكهرباء والسماح لهذه الغاية باستيراد الفحم الحجري والمشتقات النفطية في حال عدم توافرها محليا من غاز وفيول وديزل…ويسمح بتطوير وسائل الانتاج والطاقة الانتاجية بجميع مستلزماتها وفق الحاجات والمتطلبات المستقبلية واضافة عقارات لاستعمالها».
من خلال هذه الرخصة الفضفاضة التي تبدو أكثر من مُريحة للمستثمر، تُطرح التساؤلات. ومن حق الزحليين ومن يقف وراءهم ان يسألوا اليوم وزير الصناعة عن مبررات التمسّك بعدم التراجع عن هذه الرخصة، وهل صار من المسموح القفز فوق ارادة الناس، وفوق ارادة ممثليهم، وفوق ارادة المراجع الدينية، من اجل «جبّالة»؟
في ملفي الحوض الرابع وجبّالة زحلة، هناك اكثر من مجرد علامات استفهام حول مسألة القرارات التي تُتخذ وتصبح «مقدسة» بسحر ساحر، وتعجز الاصوات المعترضة عن وقفها، حتى لو كان صوت الشعب، كما يُقال، من صوت الله.