تدلّ الإحصاءات العديدة الصادرة عن مؤسسات رسمية منذ عدّة سنوات، على تباطؤ كبير في النمو الاقتصادي الألماني. وبالإجمال هناك مؤشرات عديدة على «تقهقر» الاقتصاد الألماني. هذا ما يتعرّض له الصحفي الألماني أولاف جيرسيمان في كتابه الذي يحمل عنوان: «الفقاعة الألمانية.. الرشقات الأخيرة لاقتصاد أمّة عظيمة». الرشقات الأخيرة بمعنى تلك التي يطلقها المحاربون لـ«حفظ ماء الوجه» قبل الهزيمة.
ما يشرحه أولاف جيرسيمان في هذا الكتاب هو أن «ألمانيا تتباهى بنموذجها ـ موديلها ـ الاقتصادي في العالم، لكن التفاخر يسبق دائما السقوط»، كما يكتب. ويشير إلى أن بلاده عرفت في الواقع سلسلة من الأحداث «الاستثنائية» منذ عام 2005 والتي لها دلالتها على أن «الفقاعة الألمانية» تتعاظم.
واعتبارا من ذلك التاريخ لم تعد صادرات ألمانيا من الأجهزة والمعدّات الصناعية تعرف طريقها بسهولة نحو الصين، مثلما كان الأمر سابقا، حيث كانت الصين سوقا عملاقا للمنتجات الألمانية. والإشارة إلى أن الطلب على المنتجات الصناعية الألمانية تراجع بنسبة تقارب الـ 6 في المئة خلال الأشهر القليلة السابقة.
من المسائل التي يؤكّد عليها مؤلف هذا الكتاب هو أنه ينبغي على ألمانيا «أن تتحرّك بحذر شديد». ذلك نظرا لـ«التدفّق الديموغرافي الكبير» الذي عرفته مؤخّراً، ولكن الذي لا ينبغي أن يجعلها تهمل الواقع الديموغرافي المهدد. ذلك أن ذلك التوجّه قد ينعكس في «الاتجاه الآخر».
ويدعم المؤلف منظوره المتشائم بالاعتماد على «تقرير المفوضية الأوروبية حول الشيخوخة لعام 2012»، والذي حدد أن اليد العاملة الألمانية سوف تتناقص بمعدّل 200000 عامل سنويا خلال العقد الحالي. ويتم الذهاب في هذا الاتجاه إلى حد ترقّب «كارثة وطنية» ألمانية في هذا المجال في أفق عام 2045.
ولا يتردد مؤلف الكتاب في التأكيد على أن «السياسات الضرائبية والبنى الاجتماعية الألمانية شجّعت على التدهور الكبير في معدّل الولادات خلال العقود الأخيرة». ومن الواضح أن جيرسيمان يولي في تحليلاته أهمية خاصّة للمسألة الديموغرافية، التي يعتبرها «المسؤول الأساسي في الانحدار الألماني» وأنها شديدة الخطورة في منظور المستقبل.
وينعت المؤلف الحالة الديموغرافية المتراجعة في ألمانيا بـ«الديون الضمنية»، ذلك بمعنى أنها «لا تظهر في الإحصائيات الرسمية». ذلك رغم أنها واضحة للعيان في العديد من الحالات، مثل زيادة عدد المتقاعدين. ويصل المؤلف إلى القول إن أولئك الذين يستطيعون الإنجاب من الألمان في المرحلة الراهنة ينتمون إلى أجيال أقل عددا من الأجيال السابقة.
وهو يشبّه ألمانيا اليوم بـ«شخص تقدّم به العمر وينتظر بهدوء إحالته على التقاعد». لكنه يشرح أن عمق المشكلة يكمن في أن هناك فارقاً كبيراً بين الحالة الفردية والوضع الاجتماعي بالنسبة للصعيد العام. ذلك أنه يمكن فهم أن ينتظر الفرد «استراحة التقاعد» بعد عناء فترة العمل الطويل. لكن الأمر نفسه يكون بمثابة «انتحار» على صعيد المجتمع.
ويضيف ان تلك المسألة المتعلّقة بعدد السكان تعود أيضا إلى «ضعف الاستثمار في هذا المجال وما زاد من حدّة الخطأ». وفي مثل هذا المنظور يرى أولاف جيرسيمان أن موقع ألمانيا في القارة الأوروبية يتراجع، بينما قد تكون فرنسا هي القوّة الاقتصادية الأكبر في أوروبا بعد عشر سنوات.
في محصّلة التحليل واعتماداً على مجمل المعطيات التي يقدمها المؤلف يصل إلى القول إنه يسود في ألمانيا «إحساس بالاعتزاز لا شيء يبرره» في الواقع. المثال الذي يقدمه في هذا الصدد هو أن ألمانيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي قررت التخلّي بشكل كامل وشامل ونهائي عن الطاقة النووية بعد حادث انفجار مفاعل «فوكوشيما» الشهير في اليابان. ويشير المؤلف إلى أن ألمانيا «ظنّت أن العالم كلّه ينظر لها بإعجاب كبير»، لكن الواقع أنها قامت بعمل منفرد دون التنسيق مع شركائها الأوروبيين وغيرهم. بل وتأكيد المؤلف «دون تحضير الألمان أنفسهم» لمثل ذلك القرار «اللاعقلاني».
وصورة متشائمة عموما يرسمها مؤلف الكتاب للحالة الألمانية القائمة وتوقع صورة أكثر قتامة بالنسبة للسنوات القادمة. هذا بقلم صحافي ألماني متمرّس وأحد العارفين بشؤون بلاده.