IMLebanon

صادرات النفط في منظمة التجارة العالمية

OilWorld

صباح نعوش

تعرضت الصادرات النفطية إلى تذبذب كبير في الآونة الأخيرة. ترى ما مدى مقدرة الدول على التحكم في الإنتاج والصادرات وفق قواعد منظمة التجارة العالمية؟ وهل تستطيع الدول المتضررة الطعن في هذا التحكم؟

النفط وأحكام المنظمة
تؤثر تجارة النفط تأثيراً كبيراً على الموازين التجارية والميزانيات العامة للدول المصدرة والمستوردة، كما تلعب دوراً أساسياً في جميع الأنشطة الاقتصادية وفي مستويات المعيشة والعمالة والتضخم والتداول في الأسواق المالية.

والصادرات النفطية العالمية تتجاوز بكثير الصادرات الزراعية العالمية، كما أن الصادرات النفطية للسعودية وحدها تفوق صادرات الملابس الجاهزة في العالم.

وعلى الرغم من هذه الأهمية القصوى للنفط، فقد تمخضت عن الجولة الثامنة للمفاوضات التجارية (جولة أورغواي 1986-1993) عدة اتفاقات متعددة الأطراف -منها اتفاق على تجارة المنتجات الزراعية واتفاق على تجارة الملابس الجاهزة والمنسوجات- ولم يحظ النفط باتفاق خاص به، بل لا يوجد في أي اتفاق لمنظمة التجارة العالمية المنبثقة عن هذه الجولة نص يخاطبه صراحة.

خلق هذا الوضع نوعاً من الخلط والضبابية في بعض التحليلات والاستنتاجات التي ترى أن النفط كالأسلحة غير خاضع لأحكام المنظمة، ينبني على هذا الرأي تمتع الدول المصدرة للنفط بالحرية المطلقة في تحديد مستوى إنتاجها وصادراتها بصورة انفرادية أو بصورة جماعية، ولا يحق لأي بلد الاعتراض على هذه الحرية.

والواقع أن هذا الطرح غير دقيق، إذ لا بد من التفرقة في هذا الميدان بين أمرين: أولهما عدم وجود اتفاق حول تجارة النفط في إطار منظمة التجارة العالمية. وهذا صحيح. وثانيهما عدم وجود نصوص في اتفاقات هذه المنظمة تنطبق على التجارة النفطية. وهذا خطأ.

لم يحظ النفط باتفاق خاص به لسببين، أحدهما أن جولة أورغواي شاركت فيها 123 دولة، ليس من بينها سوى أربع بلدان نفطية وهي الكويت ونيجيريا والمكسيك وفنزويلا، بمعنى أن 81% من الاحتياطي العالمي مملوك لدول لم تكن طرفاً في تلك الجولة والجولات السابقة لها، وتمثل هذه الدول غير المساهمة في المفاوضات 86% من الإنتاج النفطي العالمي، ولم تهتم الأقطار العربية النفطية بتنظيم التجارة العالمية إلا قبل بضعة أشهر من انتهاء الجولة الثامنة.

والسبب الآخر والأهم هو أن جميع اتفاقات تجارة السلع انصبت على تقليص الرسوم الجمركية المرتفعة وإزالة القيود الكمية في الدول المستوردة، أما التجارة النفطية فلا تخضع في هذه الدول للرسوم الجمركية إلا بنسبة ضئيلة، وفي عدد قليل جداً من الدول، الذي يكاد ينحصر باليابان والولايات المتحدة.

كما لا تفرض على الواردات النفطية قيود كمية، إلا في ميدان العقوبات الاقتصادية (كحالة ما كان يسمى بـالنفط مقابل الغذاء والدواء في العراق)، وذلك على خلاف واردات المنتجات الزراعية والملابس الخاضعة لأنظمة الحصص، وعلى هذا الأساس لم تجد الدول المصدرة والمستوردة للخام والمشاركة في المفاوضات فائدة من تخصيص اتفاق متعدد الأطراف للتجارة النفطية.

لكن عدم وجود اتفاق ينظم التجارة النفطية لا يعني عدم سريان أحكام الاتفاق العام للتعريفة والتجارة (المعروف اختصاراً بالجات وهو يحكم السلع الصناعية)، فالقاعدة العامة هي خضوع المبادلات الخارجية لاتفاقات منظمة التجارة العالمية ما لم يرد نص صريح على خلاف ذلك.

ولا يوجد أي نص يخرج تجارة النفط من الجات، في حين تنص الفقرة الثانية من المادة الحادية والعشرين من الجات صراحة على عدم سريان تلك الأحكام على تجارة الأسلحة ومواد الانشطار (بعض أصناف اليورانيوم والبلوتونيوم).

نصت الفقرة الأولى من المادة الحادية عشرة من الجات على ما يلي “يمنع على الدولة تقييد وارداتها أو صادراتها سواء بشكل حصص أو إجازات الاستيراد أو التصدير أو أية وسيلة أخرى باستثناء الرسوم الجمركية والضرائب الأخرى”. المبدأ العام إذاً هو تحرير المبادلات الخارجية من القيود الكمية.

بيد أن التطبيق المطلق لهذا المبدأ يجعل قرارات الدول النفطية وسياسة منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) غير منسجمة أحيانا مع اتفاقات منظمة التجارة العالمية، فزيادة الإنتاج النفطي التي تقود إلى ارتفاع الصادرات وبالتالي إلى هبوط الأسعار أمر مسموح به في النظام التجاري العالمي.

لكن خفض الإنتاج النفطي الذي يفضي إلى تقليص الصادرات ومن ثم إلى ارتفاع الأسعار ممنوع في هذا النظام، وبالتالي لا تستطيع الدول النفطية التحكم بمواردها كما تشاء فتتضرر مصالحها التجارية والمالية، وحتى لا تقع الدولة في هذا المأزق، وردت على مبدأ التحرير كغيره من مبادئ المنظمة عدة استثناءات من بينها تلك التي تنطبق على التجارة النفطية، وهذه الاستثناءات (وليس المبدأ العام) هي التي تحقق للدول النفطية أكبر قدر ممكن من الحرية في وضع سياساتها الملائمة لمصالحها بما فيها تقليص صادراتها.
تقليص الصادرات النفطية
نصت الفقرة السابعة من المادة العشرين من الجات على جواز اتخاذ الإجراءات اللازمة “للحفاظ على الموارد الطبيعية القابلة للنضوب”، وضع هذا النص بالدرجة الأولى لتنظيم تجارة النفط والغاز الطبيعي لأن صادراتهما تمثلان ثلاثة أرباع صادرات الموارد القابلة للنضوب في العالم.

انطلاقاً من هذا الاستثناء على المبدأ العام يصبح من حق أية دولة نفطية التحكم بإنتاجها وفق ما تراه ملائماً لتجنب النضوب السريع، أي يمكنها تقليص صادراتها عن طريق تخفيض إنتاجها، وليس للدول المستوردة الاعتراض على هذا الإجراء حتى وإن أثبتت بأن الاحتياطي المؤكد للدول المصدرة يرتفع باطراد، لأن النضوب مسألة فيزيائية ترتبط بالكمية الكلية التي تقل حتماً بالاستخراج. برميل النفط المستخرج لا يعوض إلا بعد مرور ملايين السنين.

في حين أن الاحتياطي المؤكد مؤشر اقتصادي يتعلق بكمية النفط الممكن استخراجها وفق أسعار البرميل والتقدم التكنولوجي في فترة زمنية معينة. بمعنى أن ارتفاع الاحتياطي المؤكد لا يلغي حتمية النضوب. ويلاحظ أن نص الفقرة السابعة يتطرق إلى النضوب فقط.

لكن حق الدولة في تقليص صادراتها وفق هذا الاستثناء يخضع لشرطين، الشرط الأول احترام مبدأ عدم التمييز، فلا يجوز تخفيض الصادرات النفطية إلى دولة دون أخرى، بل يتعين أن يشمل التخفيض جميع الدول المستوردة.

والشرط الثاني ترشيد الاستهلاك الداخلي للمنتجات النفطية، إذ إن تقليص الصادرات المتزامن مع ارتفاع الاستهلاك المحلي قد يفسر بأنه وسيلة لرفع الأسعار في السوق العالمية وهدر للموارد الطبيعية وليس الحفاظ عليها من النضوب، لابد إذاً من تناسب هبوط الصادرات مع تخفيض الإنتاج وتقليص الاستهلاك.

إن هذا الاستثناء هو الأساس الذي يتعين على الدول النفطية الاستناد إليه عندما تقرر تقليص صادراتها وتجنب طعن الآخرين بقرارها أمام المنظمة.

ومن زاوية أخرى نصت الفقرة التاسعة من المادة العشرين من الجات على السماح بتقليص الصادرات وزيادة الإنتاج في آن واحد بهدف تنمية وتطوير الصناعات التحويلية في الدول النفطية، وفي أغلب الأحيان يقود هذا الاستثناء إلى الوقوع بمشكلة أخرى ترتبط بازدواجية الأسعار التي سيأتي بيانها.
أحكام هبوط الأسعار
هبطت أسعار الخام في الآونة الأخيرة لأسباب تتعلق بتباطؤ الأداء الاقتصادي الصيني وارتفاع إنتاج النفط الصخري الأميركي وتردي معدلات النمو على الصعيد العالمي. وبدلاً من أن يتخذ الاجتماع الأخير لأوبك المنعقد يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم قراراً بتخفيض الإنتاج لامتصاص زيادة العرض، ترك الأمر تحت تأثير السعودية لقوى السوق، كما قامت المملكة بزيادة إنتاجها فتفاقمت التخمة النفطية وانهارت الأسعار.

تزامن هذا التطور مع تدهور الحالة الاقتصادية في فنزويلا وتوتر الوضع العسكري في منطقة القرم والعقوبات الاقتصادية ضد إيران والحرب الأهلية في كل من العراق وسوريا، وهكذا أصبح العراق قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس وكذلك فنزويلا ومن قبلهما سوريا.

ولم يعد أمام إيران سوى التخلي عن مساندتها العسكرية للنظامين السوري والعراقي وعن التدخل في الشأن الخليجي إن أرادت أن تعود أسعار النفط إلى الارتفاع، خاصة أن إيران وكذلك العراق وسوريا لا يمكنها الدفاع عن مصالحها التجارية أمام منظمة التجارة العالمية لأنها لا تتمتع بعضويتها.

ولكن هل تستطيع روسيا وفنزويلا رفع شكوى ضد السعودية تحت عنوان إغراق الأسواق؟ ألا يمكن تشبيه السياسة السعودية الحالية بالممارسات التجارية لبعض الدول الآسيوية كالصين التي أثرت سلبيا عن طريق الإغراق بالمنتجات المحلية للدول المستوردة؟

إن عبارة “إغراق الأسواق” باتت تتردد في بعض وسائل الإعلام ليست الروسية والإيرانية فحسب بل كذلك العربية، إنها بالتأكيد تستخدم التعبير غير المناسب وقد لا تدرك على وجه الدقة عناصره وتبعاته.

الإغراق بمفهومه التجاري لا ينطبق على العلاقة بين مصدرين، بل على العلاقة بين مصدر ومستورد فقط، كما أن الإغراق لا يعني البيع بسعر منخفض في فترة معينة مقارنة بفترة أخرى، بل يعني بيع “سلعة معينة منتجة في دولة ما إلى سوق دولة أخرى بسعر يقل عن قيمتها العادية”. إنه نص المادة السادسة من الجات الذي يسمح بتحريك دعوى إذا كانت الدولة المتضررة مستوردة للسلعة.

ويفترض الإغراق تضرر الدول المستوردة من الأسعار المنخفضة، في حين أن العكس صحيح فيما يخص النفط، فقد حققت هذه الدول مكاسب تجارية ومالية وصناعية جمة بسبب انهيار الأسعار.

والأهم من هذا وذاك أن الإغراق يستوجب بالضرورة أن يكون سعر التصدير أقل من سعر البيع داخل الدولة المصدرة، والسعر الأخير هو “القيمة العادية” الواردة في النص أعلاه، في الوقت الحاضر يبلغ سعر التصدير 48 دولاراً للبرميل، في حين أن متوسط سعر لتر الوقود في السعودية مثلاً (القيمة العادية) 0.52 ريال أي ما يعادل 22 دولاراً للبرميل.

إن بيع النفط في السوق الداخلية بسعر يقل عن سعر التصدير (الحالة العكسية للإغراق) لا يقتصر على السعودية، بل يشمل غالبية الدول النفطية. إن هذه الممارسة التجارية تخرج من نطاق الإغراق لتدخل في مشكلة أخرى وهي ازدواجية الأسعار. ولا علاقة لهذه المشكلة بتصدير النفط، بل بتصدير مواد مصنعة يستحوذ النفط على نسبة عالية من القيم المضافة إليها كالبتروكيماويات وصناعة الألمنيوم.

وهذه الممارسة إعانة حكومية تمنح للصناعات المحلية لتحسين قدرتها التنافسية في السوق الخارجية، والإعانة بهذا المفهوم ممنوعة بموجب اتفاق الدعم والإجراءات التعويضية، وقد تلقت دول مجلس التعاون انتقادات من قبل الاتحاد الأوروبي الذي يرى في هذه الممارسة منافسة غير مشروعة تعرض المنتجات الأوروبية المماثلة للخطر.

الأمر الذي يبرر فرض رسوم جمركية مرتفعة جداً على المنتجات الخليجية، ويرى الاتحاد الأوروبي في هذه الرسوم إجراءات تعويضية تنسجم مع الاتفاق المذكور.
تضرر الولايات المتحدة
وهنالك سيناريو آخر يرتبط بتضرر الولايات المتحدة بسبب السياسة النفطية السعودية الحالية، التي أثرت سلباً على استغلال النفط الصخري الذي يعول عليه الأميركيون لتحقيق الاكتفاء الذاتي.

لكن تقارير منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ترى في هبوط أسعار النفط مكاسب كثيرة للاقتصاد العالمي، ولا يتصور أن تقدم السعودية على تلك السياسة إلا بعد استشارة الأميركيين وربما موافقتهم.

كما أن الضرر الذي لحق بإيران وروسيا أكبر من ذلك الذي أصاب الولايات المتحدة، فهذه الأخيرة تخسر في ميدان إنتاج النفط الصخري لكنها تربح في ميدان استيراد النفط التقليدي، في حين تخسر روسيا وإيران والدول النفطية الأخرى من جميع النواحي.

إن خسائر إيران وروسيا تنسجم تماما مع السياسة الأميركية التي فرضت عقوبات تجارية ومالية على هذين البلدين، وعلى هذا الأساس لا يعقل أن تقدم الولايات المتحدة شكوى أمام منظمة التجارة العالمية ضد السياسة التجارية السعودية بل بالعكس عليها تعويض المملكة لأنها أكبر متضرر من الزاوية المالية.

ولأنها تساهم في إعطاء نفس جديد للاقتصاد العالمي المختنق، ارتضت السعودية ودول خليجية أخرى تحمل خسائر مالية باهظة إلى حين أن تغير إيران سياساتها في المنطقة، التي باتت تشكل خطراً جسيماً على المصالح الاقتصادية الخليجية وعلى استقرار المنطقة العربية.

حسب الاتفاقات المتعددة الأطراف يمكن للدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية وفي جميع الحالات زيادة صادراتها النفطية لأن ذلك يدخل في إطار المبدأ العام وهو تحرير التجارة الخارجية من شتى القيود، ولكن لا يجوز لها تقليصها إلا تحت شروط معينة لأن هذا التقليص يقع في دائرة الاستثناء الوارد على المبدأ العام.