سليم ضيف الله
لم يكن أكثر الأوروبيين تشاؤماً يتوقع أن يكون حجم انتصار حزب أقصى اليسار “سيريزا” بالشكل الذي أفرزته النتائج شبه النهائية التي أعلنت اليوم في أثينا، لترتعد أوروبا، ومعها العالم فرقاً، بعد تتويج السياسي الشاب ألكسي تسيبراس، المتوقع أصغر وأقوى رئيس حكومة في اليونان، منذ سقوط الديكتاتورية العسكرية.
ولم تتأخر ردود الفعل على مستوى الاقتصادين العالمي والأوروبي، في الظهور منذ تأكد خبر فوز الحركة اليسارية بالانتخابات، وتضاعف التأثر مع ظهور تفاصيل إضافية عن حجم الانتصار الذي حققته هذه الحركة، التي تبشر بتغيير راديكالي في الحياة السياسية اليونانية، ولكن أيضاً في كامل القارة العجوز، وربما العالم أيضاً في القريب العاجل.
أكبر تهديد
ورغم محاولات المؤسسات الاقتصادية الدولية والاتحاد الأوروبي وبعض المؤسسات السياسية والمالية الدولية والاقليمية العمل على الحدّ من حجم الاكتساح الذي حققته سيريزا المنتمية إلى أقصى اليسار السياسي الأوروبي، إلا أن كل المؤشرات تؤكد أن الرعب، الذي يخيم على العواصم الأوروبية الكبرى، سببه التهديد المتزايد الذي يمثله السياسي اليوناني الشاب، تسيبراس، الذي رغم أنه لم يتجاوز 40 سنةً من العمر، إلا أنه يشكل أكبر خطر على الاستقرار السياسي والاقتصادي في أوروبا والعالم، وأكبر تهديد يواجهه الاتحاد الأوروبي نفسه منذ ظهوره الأول منتصف الخمسينات على شكل تحالف دول الفحم والحديد، مروراً بالتكامل الاقتصادي ثم السوق الأوروبية المشتركة حتى الاتحاد، في انتظار الوحدة السياسية الفدرالية، التي أصبحت في مهب الرياح القادمة من مهد الديمقراطية الغربية الحديثة: أثينا.
ولكن المثير في الحالة اليوناينة، الصعود الصاروخي للحركة اليسارية، التي ظهرت رسمياً في 2012، إبان استفحال الأزمة السياسية والاقتصادية في اليونان، بعد تحالف حركات وتيارات ومنظمات يسارية وشيوعية وفوضوية وأممية راديكالية كثيرة في وعاء موحد، تحت راية”سيريزا” التي تعني “الحبهة الوحدوية الاجتماعية” التي تتشكل من روافد سياسية ومن شبكات ومنظمات صغيرة، يجمع بينها الانتماء إلى اليسار، وتحديداً أقصى اليسار، وعداؤها المعروف للرأسمالية المتوحشة وتراجع العدالة الاجتماعية.
وبفضل الكسي تسيبراس، الزعيم الطلابي السابق والشيوعي القديم، وجدت الحركة المناهضة للرأسمالية ولسياسة الاتحاد الأوروبي، التي عمقت الأزمة المالية والاقتصادية في اليونان خاصة، بعد وضع خطة الانقاذ المالي العاجلة في 2012، وجد اليسار اليوناني ومعه اليسار الأوروبي عموماً وجهاً جديداً وزعيماً مفوهاً يتمتع بكاريزما استثنائية وقدرة على الإفادة من الوضع الصعب والكارثي الذي تمر به اليونان، لاكتساح المشهد السياسي، انتخابياً.
ورغم أن جذور الحركة تعود، إلى سنة 2004، مع بداية تشكل تحالفات يسارية راديكالية، مشابهة للحزب الحاكم الجديد في أثينا، إلا أنها عجزت عن تحقيق مكاسب أو نجاحات سياسية تذكر، حتى استفحال الأزمة وظهور تسيبراس الذي قاد الحزب الجديد، إلى تحقيق ثورة انتخابية فعلية في 2012، بحصوله على 17% من الأصوات في انتخابات 2012 البرلمانية، وليحتل بذلك المرتبة الثانية بين أكبر الأحزاب في البرلمان اليوناني، الذي فشل في الاستمرار في عمله، ما دعا إلى انتخابات مبكرة في 2015، أدت إلى اكتساح سيريزا البرلمان مع بداية السنة الجديدة، لتدخل بذلك اليونان ومن ورائها أوروبا، مرحلة جديدة من تاريخها، عنوانها الأبرز الاضطراب وغموض الموقف والخوف من تفكك الاتحاد الأوروبي نفسه.
بسيط وخطير
وبحصول الحزب اليساري على الأغلبية شبه المطلقة في البرلمان، بـ149 مقعداً من 300، أصبح بمقدوره تشكيل حكومته الجديدة، والهيمنة على مقاليد السلطة، لتنفيذ برنامجه الاقتصادي، البسيط والخطير في الوقت ذاته.
إلى جانب الأدبيات الكلاسيكية المعروفة في برامج كل الأحزاب اليسارية الأوروبية، التي تتراوح بين العدالة الاجتماعية ومكافحة تغول رأس المال، وبعض المثاليات التاريخية، لم يتميز الحزب الحاكم المنتظر لليونان، إلا بعد اشتداد الأزمة الاقتصادية، بسبب سياسة التقشف التي فرضها الثلاثي”المهيمن” على اليونان، المتألف من البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية، والتي وضعت الاقتصاد اليوناني منذ 2010، وبموافقة الحكومتين السابقتين، تحت الوصاية الدولية، في مقابل مساعدات مالية ضخمة، أفضت إلى ضخّ أكثر من 240 مليار يورو(288 مليار دولار).
وفي مقابل التمويلات، والتدفقات المالية التي سمحت بتأجيل إفلاس اليونان، الفرضية التي لا تزال قائمة رغم كل هذه القروض، كان على اليونان القبول بإدارة الثلاثي الدولي للاقتصاد اليوناني بشكل غير مباشر، بموافقة الحكومة التي قبلت اعتماد سياسة التقشف المالي والاقتصادي، واتخاذ قرارات اقتصادية صعبة ومؤلمة، تسببت في توقف النمو، وارتفاع نسبة البطالة في البلاد إلى أكثر من 25% وتقليص الرواتب والأجور ومنح التقاعد، والتقليص من الاعتمادات المخصصة للتربية والصحة والتعليم والمعونات الاجتماعية وغيرها وذلك بنسب تتراوح بين 25 و35% حسب القطاعات.
إفلاس وإنفاق
وإلى جانب الإجراءات القاسية، تفجرت سلسلة من الفضائح السياسية والمالية والاقتصادية، التي عززت نفور الناخبين اليونانيين من الطبقة السياسية الحاكمة بيمينها ويسارها، ممثلة في الحزبين الاشتراكي يساراً والمحافظ اليميني، ما فتح جسراً هائلاً في وجه سيريزا للعبور إلى المشهد السياسي ثم تصدره، بفضل برنامجها البسيط والناجع في أوقات الأزمة.
ويقوم برنامج الحزب الحاكم الجديد المنتظر، على وصفة بسيطة، رفض سياسة التقشف المفروضة على اليونان، والعودة إلى الإنفاق العمومي، لتحفيز النمو، وتخفيف العبء على المجتمع اليوناني المنهك.
ولكن اليونان التي يتوقف اقتصادها على المساعدات الدورية التي تصرفها الترويكا، أو الثلاثي، المسير للبلاد، مطالبة إذا مضت حكومة اليسار في تنفيذ برامجها ووعودها برفع سقف التحدي الذي تمثله في وجه الاتحاد الأوروبي، ما يهدد بنسفه أو في أحسن الأحوال، ظهور تجمع جديد يجمع دول أوروبا الفقيرة ممثلة في اليونان وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال من جهة، ودول الشمال الكبرى الغنية مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وبينهما الدول الشيوعية السابقة التي التحقت حديثاً بالاتحاد، في خيار أول، أما الخيار الثاني فيتمثل في قبر الاتحاد الأوروبي، ومسيرته، والبحث عن شكل جديد من التكامل الاقتصادي والسياسي، بعيداً عن كل التجربة التي عرفتها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ما يعد كابوساً أوروبياً، ومصدر تهديد كبير للسلم والاستقرار اقتصادياً وسياسياً وحتى عسكرياً في العالم.
ديون ومساعدات
وبسبب الحكومة الجديدة المنتظر تشكيلها في اليومين القادمين، التي ستقود البلاد بناءً على وعود الحزب الفائز، فإن الإفلاس لن يمنع حكومة اليسار من رفع نفقات الدولة على القطاعات الاجتماعية والرواتب والأجور ومنح التقاعد، تنفيذاً لبرنامجها، وذلك في الوقت الذي تعجز فيه أثينا عن دفع 23 مليار يورو تقريباً في 2015 وحدها لسداد قسط من ديونها، وفي الوقت الذي تحتاج فيه أ]ضاً إلى دفعة من المساعدات، لا تقل عن 7 مليارات يورو، لضمان السير العادي في الحدود الدنيا للمصاريف الحكومية، بين يناير(كانون الثاني) ومارس(آذار) 2015.
ويمثل هذا الوضع تحدياً لليونان قد لا تخرج منه إلا بإعلان إفلاسها، ورفض تسديد ما عليها من التزامات دولية، أو في أحسن الأحوال والسيناريوات، رفض شروط السداد، والمطالبة بالتفاوض على الديون وجدولتها والخروج عن شروط الصرامة المالية المفروضة عليها، ما يعني علمياً أحد الخيارين: إما أن ترضخ أوروبا للشروط اليونانية، فتمول الإفلاس المؤجل، عن طريق دافعي الضرائب في باقي دول الاتحاد، وهو ما يرفضه الاتحاد وحكوماته وشعوبه، أو القبول بامتداد الأزمة اليونانية إلى الأعضاء المعثرين الأخرين وأبرزهم إسبانيا وإيطاليا والبرتغال وأيرلندا وفلندا، وجميعها تعاني من وضع مشابه لليونان، مساعدات أوروبية مقابل صرامة وإدارة مالية ومساعدة خارجية، وصعوبات اقتصادية واجتماعية محلية، أو التفكير في القبول بإعادة النظر في الاتحاد الأوروبي ، الفكرة والمشروع والآليات، أو فتح المجال لخروج اليونان من الاتحاد، والتغاضي عن مطالبتها بديونها، دون أن يضمن ذلك ألا تتسبب العاصفة اليونانية في اقتلاع أشجار مترنحة أخرى في الحديقة الأوروبية، في سيناريو مأسوي وكابوس اقتصادي وسياسي غير مسبوق.