طلال صالح بنان
جاءت ميزانية المملكة للسنة الجديدة مفاجأة للجميع. وهذه المفاجأة لها دلالات سياسية واقتصادية ممتدة. لم تأت الميزانية بفائض، كما كان الحال في أعوام سابقة.. ولم تأت، أيضا بزيادة كبيرة في اعتمادات بنودها، كما هو حال سابقاتها. المفاجأة تكمن في أن الميزانية جاءت بزيادة في الإنفاق عن ميزانية السنة الماضية، كما أنها لم تتحمل الزيادة في إنفاق السنة الماضية التي تجاوزت ربع الميزانية تقريبا. بل ربما تكون ميزانية السنة الماضية قد أضافت فائضا ألحق باحتياطات الدولة من العملات الصعبة.
فالمملكة عادة ما تتبع سياسة متحفظة في رصد اعتمادات الميزانية بحساب تقدير الفرق بين متوسط سعر النفط الحقيقي الذي بيع به برميل النفط وبين الرقم الافتراضي الذي توضع بموجبه الميزانية.. وحاصل هذا الفرق (الإيجابي)، مع الوقت، نتج عنه تراكم احتياطي المملكة من العملات الصعبة، الذي تقول بعض التقديرات إنه شارف، إن لم يكن تجاوز الترليون دولار.
ذلك ما عبرت عنه ميزانية الدولة للسنة الحالية، دون ما تأثير يذكر لحقيقة فقدان سعر النفط لما يقرب أو يزيد على نصف ثمنه منذ سبتمبر الماضي، وحتى الآن. في الوقت الذي ترنحت فيه اقتصاديات دول أخرى منتجة للنفط، حتى تكاد تتهاوى وبينها دول كبيرة منتجة للنفط، على سبيل المثال، فقد (الربل) نصف قيمته، دون أن يكون لروسيا اعتمادات مالية كافية من العملات الصعبة في خزائنها، لمواجهة هذا الانخفاض الحاد في سعر النفط وهي دولة صناعية كبرى وغنية بمواردها غير النفطية.
السؤال هنا: كيف وصلت المملكة إلى هذه المكانة المالية الرفيعة، التي بإمكانها أن تتحمل انخفاضا مثل هذا في سعر النفط، ربما لخمس سنوات قادمة، دون أن يتأثر أداء اقتصادها، بصورة أساسية، بالتدهور في أسعار النفط، حتى مادون الخمسين دولارا. بل إن وزير النفط قال مرة: إن المملكة باستطاعتها أن تتعامل مع سعر للنفط يقل عن ٢٠ دولار، في رد على من قالوا: إن إنتاج النفط الصخري بالإمكان معاودته من مناجمه المتوقفة، بسبب ارتفاع تكلفته، عكس توقف حقول النفط الخام، لنفس الأسباب، كما هي الحال في حقول سيبريا العتيقة.
بداية: علينا أن نتذكر أن المملكة لم تتخل عن استراتيجيتها النفطية في الدفاع عن مكانة النفط الرفيعة في سوق الطاقة العالمية، وذلك بالعمل على وصول النفط لمستهلكيه بأسعار منافسة لمصادر الطاقة الأخرى، بما فيها الأحفورية منها. هذا ببساطة لأن المملكة تعد المنتج الوحيدة للنفط، في الوقت الحاضر، التي تتمتع بوجود احتياطات متنامية منه، بالرغم من غزارة الإنتاج، وبتكلفة أقل في إنتاج البرميل بالإضافة، وهذا إلى حدٍ ما الجديد هنا، أن المملكة أضحت تتمتع بمرونة أكبر في إنتاج النفط، لا تتمتع بها أي دولة منتجة أخرى، سواء بخفض الإنتاج أو زيادته.
قديما كانت المملكة تدافع عن سعر النفط، عن طريق القيام بدور المنتج المرجح. ترفع الإنتاج إذا ما زاد سعر النفط وتحفظه إذا ما انخفض السعر. هذا الدور أدى، على الأمد الطويل، إلى زيادة المنتجين مع تواضع في الطلب العالمي على النفط، فظهر منتجون جدد من مناطق إنتاج غير تقليدية.. وتم ضخ استثمارات جديدة في مصادر طاقة بديلة للنفط، سواء كانت متجددة أو حتى أحفورية. ومن ثٓم أضحت المنافسة هنا في سوق الطاقة العالمية، بالذات في النفط، ليس تكلفة الإنتاج ومن ثم النظر فقط في متغير السعر، بل على جانب الطلب، أي: على الأسواق.
مرونة المملكة الإنتاجية هنا، إذن: حدث لها تطور أو اقتراب «تكتيكي» ليس في النظر إلى السعر، بل إلى السوق، فالطلب على النفط لم يعد مرنا مقارنة بالسعر، بل على العرض أن يكون أكثر مرونة لمواجهة الطلب المتواضع على النفط، وذلك لا يتم إلا إذا استعادت أوبك لمكانتها كتجمع دولي منتج للنفط، واستعاد منتجون كبار للنفط، مثل المملكة، لمكانتهم الحقيقية في سوق الطاقة العالمية. في الجزء الثاني والأخير من هذا المقال الأسبوع القادم، بإذن الله، سوف نتناول هذا الاقتراب الجديد من سياسة المملكة النفطية، الذي يشكل «تكتيكيا» تحولا جديدا في التوجه نحو الأسواق، وليس النظر في السعر، في سياسة المملكة النفطية، وما هي تبعات هذا التحول السياسية والاقتصادية.