مرة جديدة تنقض أحزاب السلطة في لبنان على الحركة النقابية لتقوّض حصن آخر من حصون الدفاع عن حقوق الطبقات العاملة في لبنان. فقد أيقنت هذه الأحزاب أن اللعبة قد تفلت من يدها، لأن هيئة التنسيق النقابية وعلى رأسها رابطة الأساتذة الثانويين أضحت تشكل تهديداً جدياً لنفوذها على الأقل ضمن الحركة النقابية، وباتت تحوز ثقة قسم كبير من اللبنانيين الذين رأوا فيها ممثلاً حقيقياً لتطلعاتهم، ليس في العمل النقابي وحسب بل في ما تعدى ذلك. فهذه الهيئة أثبتت من خلال مسيرتها الماضية ونضالها الجدّي، بأنها أكثر من مجرد حركة نقابية، بل باكورة لحركة إجتماعية يتخطى عملها حدود العمل النقابي. فهي بنهجها والعناويين التي تطرحها تشكل بديلا مرموقا عن نهج وعناويين الأحزاب الحالية ذات الألوان الطائفية الفاقعة، وذات الأولويات المعكوسة البعيدة عن هموم الناس، والمفتقرة الى أي بعد الإجتماعي، اللهمّ ما عدا الخطابات الجوفاء التي تلقى في المناسبات والمزينة بالكلام المنمّق البعيد عن أي التزام فعلي.
هذه الإنقضاضة تثبت أن الأحزاب الحالية أرادت وأد الحركة النقابية في مهدها قبل أن تتطور الى ما لا تحمد عقباه، (طبعا وفقا لما تراه هذه الأحزاب) التي لا ترضى مصالحها دخول لاعبين جدد الى الساحة، ولا تحتمل حتى مساحة صغيرة لمن أراد أن يحمل برامج نقابية وهموما اجتماعية تضعها في صلب خارطة العمل السياسي النبيل. ففي بلدان العالم المتقدم ينقسم المواطنون الى أحزاب تمثل مصالحهم وأفكارهم، فيختار كل مواطن اتجاهه بين يمين أو يسار أو وسط أوما بينها. أما في لبنان فالأحزاب بغالبيتها هي مجرد ممثل للعصبيات الطائفية والفئوية، بدون مضامين أجتماعية، ولا تحمل من العناوين السياسية التي تخاطب بها الجماهير سوى صراع العصبيات العقيم، البعيد كل البعد عن العمل السياسي المجدي. وقد راعها أن ترى حركة نقابية تستقطب الناس وتجمعهم تحت يافطات مرتبطة بمصالحهم الإقتصادية، مصوّبة بذلك العمل النقابي ومن خلاله العمل السياسي. كذلك هالتها نوايا قادة هذه الحركة، الذين وعدوا بتحويلها الى تجمع عريض ينحو باتجاه السياسة. فأبت الا ان تجهض سعيها، لأنها تخطت الخطوط الحمر المرسومة لحدود اللعبة السياسية والاقتصادية في لبنان، وهددت مصالح الطبقة السياسية وحليفتها اللدود الطبقة الإقتصادية المهيمنة. وأمست هيئة التنسيق النقابية وبرنامجها الواعد، هدفا لأولئك الذين يريدون إبقاء اللبنانيين أسرى للانقسامات العامودية من جهة ولمصالح قوى المال من جهة أخرى. ويا سبحان مغير الأحوال ! فكيف استطاعت هذه الأحزاب التي تصارعت في ما بينها حتى الموت طيلة الأعوام الماضية، أن تتوحد وتنتظم في بوتقة واحدة في وجه الحركة النقابية لو لم ترى فيها خطرا حقيقيا على مصالحها.
إن الطبقة السياسية وكما يعلم الجميع، تريد من خلال الإتيان بقيادات نقابية مضبوطة حزبيا، أن تجعل هذه القيادات تحت السيطرة، فلا تخربط لها حساباتها، ولا تتعدى الحدود المرسومة لها خدمة لمصالحها الضيقة، ولمصالح تحالفاتها السياسية العريضة، وبخاصة لمصالح حلفها التاريخي مع القوى الإقتصادية والمالية المهيمنة، حتى لو جاء ذلك على حساب أصحاب الدخل المحدود، وعلى حساب إقرار سلسلة رتب ورواتب عادلة تحفظ الحد الأدنى من حقوق الموظفين. وليس السلسلة الممسوخة المنوي إقرارها، والمعدة وفقا لوصفات “باريس 3” من قبل خبراء الحذلقة والشعوذة المالية، المتفننون في قضم حقوق أصحاب الدخل المحدود خدمة لمشغليهم من أصحاب المصالح المالية الكبرى، واللذين يبتغون تحت ذريعة “البنود الإصلاحية” المزعومة، تفريغها من كل مضمون حتى لا يبقى منها سوى الإسم فقط.
إن ما جرى في انتخابات رابطة الأساتذة الثانويين سوف يستتبع في انتخابات الأحد المقبل في رابطة أساتذة التعليم المهني والتقني، بهدف الإجهاز على ركن آخر من أركان هيئة التنسيق النقابية، ويبدو أن سياسة المحدلة مستمرة وجاثمة على صدور الكثيرين منا. ومهما تكن الصعوبات وإن يكن نداءنا هذا ليس سوى صوت مناد في البرية، الا أننا لن نستسلم أو نيأس، ولن ننفك ندعو زملاءنا الى أخذ زمام المبادرة والاقتراع للذين اختاروا تمثيلهم كأساتذة، وكأساتذة فقط، والذين اختاروا طريق الإستقلال النقابي، طريق سلسلة الحقوق، طريق هيئة التنسيق النقابية.