عندما هُدِّدت شركة صناعة الرقائق الإلكترونية الأمريكية كوالكوم بغرامة مالية قدرها مليار دولار لمخالفتها قانون منع الاحتكار في الصين في عام 2013، انتهجت نهجا جديدا: فقد قررت أن تدافع عن نفسها. واعتُبر ذلك خطوة غير عادية، في بلد تنحني الشركات الأجنبية في كثير من الأحيان ببساطة، أمام بيروقراطية بكين.
ويقول محام مقره بكين “معظم الشركات تريد فقط دفع الغرامات والمضي قدما”. وأضاف “من الناحية الفنية يمكنهم الاستئناف، ولكن من الذي يريد أن يجعل الأمور أسوأ أمامه”؟ بعد مرور عام، من غير الواضح ما إذا كانت تلك الاستراتيجية ناجحة. ومع أن هناك قرارا وشيكا، كانت الإجراءات التي تتم وراء أبواب مغلقة موضوع الدبلوماسية الدولية والتهديدات المبطنة. في مرحلة من المراحل دخلت القضية لفترة وجيزة الساحة العامة مع مهاجمة وسائل الإعلام الحكومية المختص الرئيسي لدى الشركة، لكن كثيرا من الأمور تعتبر على المحك: تنطوي القضية على إمكانية إعادة تشكيل النظام العالمي لبراءات اختراع الهاتف الذكي. يجري التحقيق مع “كوالكوم” من قبل لجنة الإصلاح والتنمية الوطنية، هيئة التخطيط المركزي القوية للدولة، ولديها سمعة مخيفة ومعدل كسب “إن لم يكن بنسبة 100 في المائة، فإنه قريب جدا منها”، كما يقول محام آخر.
وهذه قضية ليس بمقدور شركة كوالكوم أن تخسرها. الغرامة الممكنة – ما يصل إلى 10 في المائة من إيراداتها التي مصدرها الصين – ستكون مرهقة، لكن الخطر الحقيقي هو أن بكين قد تجبر شركة كوالكوم على أن تتقاضى مبالغ أقل من براءات اختراع الهاتف الذكي للجيلين الثالث والرابع، التي تعتبر في الوقت الحاضر الأغلى في هذه الصناعة، ويحتمل أن تفتح الباب أمام مطالب مماثلة في أسواق أخرى تتعرض لها الشركة. يقول ستايسي راسجون، محلل كبير لأشباه الموصلات في وكالة سانفورد بيرنشتاين في لوس أنجلوس “هذا من شأنه أن يكون مدمرا لنموذج أعمالها”.
تأتي قضية شركة كوالكوم هذه بعد اختلاف عدة شركات تكنولوجيا أمريكية مع السلطات الصينية، ووسط شعور متنام بين الشركات الأجنبية بأنها تتعرض لمعاملة غير عادلة. كان مسؤولون في بكين يقدمون المشورة، بالتودد وأحيانا من خلال منع الشركات المملوكة للدولة والجهات الحكومية من شراء السلع الأمريكية ذات التقنية العالية من أمثال أبل وIBM. في تموز (يوليو)، تمت مداهمة مكاتب شركة مايكروسوفت من قبل جهاز تنظيمي ثان لمكافحة الاحتكار، أي إدارة الدولة للصناعة والتجارة. في العامين الماضيين تم إشراك لجنة الإصلاح والتنمية الوطنية في قضايا بارزة حول التلاعب في الأسعار ضد الشركات العالمية، في قطاعات تراوح من مصنعي حليب الأطفال، بما في ذلك دانون وفونتيرا، إلى صناعة السيارات.
الرجل المطّلع
في شباط (فبراير) 2014، اتهم شو كون لين، الذي كان في ذلك الحين رئيسا لمكتب مكافحة الاحتكار التابع للجنة الإصلاح والتنمية الوطنية، وبشكل علني الشركة بأنها “أساءت استخدام براءة الاختراع”، مضيفا أن “هذه الشركات تحصل على الأرباح من خلال التسعير التفضيلي لجهة دون أخرى، أو أنها تتقاضى رسوم ريع عالية”.
في مواجهتها لأزمة شاملة، نفذت شركة كوالكوم استراتيجية دفاع عدوانية تضمنت توظيف تشانج تشنزو، المختص الاقتصادي الذي وضع مسودة قانون مكافحة الاحتكار في الصين عام 2008، في محاولة لإثبات أن الشركة لم تنتهك هذا القانون. من المعروف عن تشانج أنه أفضل مستشار قانوني في أعمال انتهاكات قانون مكافحة الاحتكار في الصين، وحيث إنه يتقاضى مبلغ 800 دولار في الساعة، فإنه يعترف بأنه الأعلى أجرا كذلك.
وهو مختص اقتصادي في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة تولوز تحت إشراف جان تيرول، الذي فاز عام 2014 بجائزة نوبل لأعماله حول القانون التنظيمي. ولدى عودته إلى الصين في أواخر التسعينيات، وضع تشانج أو ساعد في صياغة كثير من القواعد التي تحكم الآن اقتصاد السوق في الصين – ابتداءً من مكافحة الاحتكار إلى إصلاح سوق الكهرباء. وكان أيضا عضوا في لجنة نخبة تقدم المشورة للحكومة بشأن سياسة مكافحة الاحتكار، وهو المنصب الذي يتنافر إلى حد ما مع وظيفة جانبية مجزية، باعتباره مستشارا لشركات خاصة متهمة بانتهاك ذلك القانون.
يقول أحد المحامين الأجانب في بكين “إن قرار شركة كوالكوم التعاقد مع تشانج كان نهج مواجهة محفوفا بالمخاطر”، خاصة لأنه كان له تاريخ في استعداء بكين. وقد انتقد في وقت سابق الحكومة لتطبيق قوانين بصورة غير متسقة، ساعد هو على صياغتها. وكانت لجنة الإصلاح والتنمية الوطنية قد استاءت من قبل من نقد تشانج الجارح بشكل خاص أساليبها في عام 2011. لذلك، عندما قدم تشانج واثنان من المؤلفين الأمريكيين المشاركين ورقة يجادلون فيها لمصلحة دفاع “كوالكوم” في آب (أغسطس)، اتُّهِم على الفور بأن لديه تضاربا في المصالح – “يأكل من الشرق ويقيم في الغرب”. وقال مقال افتتاحي في شينخوا، وكالة الأنباء الرسمية “في أكثر الأحيان، فإن أمثال تشانج تشينزو في مجتمعنا سيشكلون تهديدا مباشرا للأمن القومي”. وقد تم تجريده من منصبه كمستشار للحكومة. وقال تشو في أيلول (سبتمبر)، “وفقا لنظام المجالس الاستشارية لمجلس الدولة، فقد خرق بشدة القواعد. وبأدنى المستويات، كان ذلك غير مناسب”. ويقول تشانج “إن عائلته عانت عواقب غير محددة”، لكنه وافق على التحدث لصحيفة فاينانشيال تايمز، لوضع الأمور في نصابها.
وكما يقول، وهو يجلس في مقهى ستاربكس بالقرب من منزله في بكين “معظم أصدقائي يقولون إن هذه ليست بالفكرة الجيدة، وإنه ينبغي علي أن أبقى هادئا”. ويضيف “لم يكن لدي أي تضارب في المصالح في الوقت الذي عملت فيه فقط لمصلحة شركة كوالكوم”. ويضيف أن “واجباته في اللجنة لم تشمل تقديم المشورة للجنة الإصلاح والتنمية الوطنية حول القضايا، وأن جميع أعضاء اللجنة يعملون كمستشارين خاصين”، وهذا ما أكده أحد الأعضاء الآخرين. ونفت شركة كوالكوم أي صلة مالية مباشرة لها بتشانج، الذي تم التعاقد معه من قبل شركة جلوبال إيكونومكس، وهي شركة استشارية مقرها في شيكاغو.
وقالت شركة كوالكوم في ذلك الوقت “التعاقد مع مختصي الاقتصاد لتوفير مثل هذا التحليل الاقتصادي لسلطات مكافحة الاحتكار، ممارسة روتينية في التحقيقات الحكومية في الصين وحول العالم”.
تشانج أقيل لانتقاده الحكومة
وضعه يعتبر رمزا لما حدث لجزء كبير من القانون التنظيمي الذي وضعه مع زملائه الاقتصاديين بوضعه على مدى العقد الماضي، الذي تم تصميمه لإنشاء إطار لإدارة المرحلة الانتقالية في الصين من الاشتراكية إلى اقتصاد السوق. ذلك النهج كان ينظر إلى القانون التنظيمي، ليس باعتباره عصا إدارية غليظة مدارة مركزيا، ولكن بوصفه نظاما لمكافأة الابتكار، وحماية حقوق الملكية وتعزيز القطاع الخاص التنافسي.
لحظة فرانكنشتاين
بدلا من ذلك، شهد أن جهوده أصبحت سلاحا في حروب مناطق النفوذ البيروقراطية. ويقول تشانج “لقد تعمدت هذه الوكالات أن تسيء فهم الهدف من هذه الإصلاحات، كذريعة لزيادة القانون التنظيمي بدلا من تقليله”.
تجادل غرفة التجارة الأمريكية في بكين بأنه بدلا من ترك السوق الحرة تعمل بطريقتها، إلا أن ذلك عزز قطاع الدولة فقط. وقالت في تقرير في العام الماضي “تسعى الصين إلى تعزيز هذه الشركات التابعة للدولة من خلال قانون مكافحة الاحتكار، وفي تجاهل واضح لقانون مكافحة الاحتكار، فإنها تشجع هذه الشركات على تعزيز قوتها في السوق، رغم أن هذا مخالف للغرض الطبيعي من قانون المنافسة”. ينظر تشانج الآن إلى قانونه لمكافحة احتكار بنفس مزيج الإعجاب الأبوي والقلق العصبي، الذي يحتمل أنه كان لدى الدكتور فرانكنشتاين للكائن الذي صنعه بعد أن انقلب عليه. وكما يقول “قبل عشر سنوات إلى 15 سنة، أرادت الحكومة القيام بالتجارب الحقيقية”. اليوم، كما يجادل، اتخذوا نظاماً شُيد بشكل متقن من الضوابط والتوازنات، وحولوه إلى هراوة إدارية صممت لضمان تحقيق نتيجة مرجوة معينة.
وأضاف “الناس يخافون من طرح دفاع جدي”. وتعد “كوالكوم” أول شركة تفعل ذلك، وهذا ما جعل لجنة الإصلاح والتنمية الوطنية منزعجة للغاية. ترفض لجنة الإصلاح والتنمية الوطنية الانتقادات التي تعتبرها منحازة، بحجة أنها مشغولة فوق الحد على نحو لا يتيح لها الوقت لإدارة مؤامرة ضد الشركات الأجنبية، وأنها تحقق فقط عندما تكون هناك “شكاوى مبنية على أسس متينة”. ويقول تشانج إنه لا يعتقد أن اللجنة “منحازة بطبيعتها” ضد الشركات الأجنبية، أو أنها مدفوعة من قبل المشاعر القومية. بدلا من ذلك، يعتقد أن التحقيقات كانت مستوحاة من المنافسة المتزايدة بين الشركات الصينية ومثيلاتها الأجنبية.
يبدو أن التنامي في القضايا يدعم هذا الرأي، فحسب مجلس الأعمال الصيني الأمريكي العام الماضي أنه في حين أطلقت لجنة الإصلاح والتنمية الوطنية 20 تحقيقا حول التسعير بين عامي 2008 و2012، وتولت التحقيق في 80 حالة في عام 2013 وحده. ووفقا لبيانات متاحة للجمهور، دفعت الشركات الأجنبية أو مشاريعها المشتركة 76 في المائة من مبالغ تزيد على ثلاثة مليارات رنمينبي (480 مليون دولار)، ضمن عقوبات مكافحة الاحتكار التي صدرت عن اللجنة منذ عام 2011.
وتدافع الوكالة بقوة عن نفسها ضد اتهامات بأنها تسيء استخدام المعلومات السرية أو أنها تستخدم الترهيب، على الرغم من أنه يبدو أن معاملة تشانج تناقض ما تقوله الوكالة. وتقول الشركات “إنه يُطلَب منها بصورة روتينية عدم جلب محامين أجانب إلى الاجتماعات، وتتعرض للضغط عليها للاعتراف بالانتهاكات، وإلا فإنها تواجه عقوبات أكثر شدة”.
وكما يقول تشانج “هذا هو حكم الشعب بدل أن يكون حكم القانون”، مضيفا أنه “نتيجة أخطاء القانون، فإن قانون مكافحة الاحتكار في الصين الآن تحت المحاكمة أيضا”. وتعتبر اللجنة أن اتهامات الترهيب هي نوع من “التشويه” و”إهانة لإدارتنا”. مسؤول حكومي صيني تحدث شريطة عدم الكشف عن اسمه قائلا، “عند فرض القانون، بطبيعة الحال نحن لا نرسم ابتسامات مزيفة على وجوهنا، وإنما نكون أكثر جدية. يمكن أن يكون الأمر مجرد أننا نبدو في غاية القسوة أو الجدية، عندما نقول إنه يجب علينا أن نكون على بينة بالعواقب القانونية”.
كما يضيف “لدينا التزام بتحذيرها (أي الشركات) من العواقب التي يمكن أن تقع عليهم إذا لم يقدموا أدلة صحيحة، لدينا واجب تذكيرهم بالمطلوبات المحتملة، إن الأمر ليس بترهيب”. رفضت شركة كوالكوم الرد على أسئلة حول هذه القضية، مشيرة إلى أن الإجراءات القانونية لا تزال مستمرة. وتقول “سنواصل التعاون مع اللجنة”.
ومع ذلك، لا تعتبر اللجنة هي الجهاز التنظيمي الأول الذي يلقي نظرة فاحصة على شركة كوالكوم. في عام 2009، غرمت وكالة مكافحة الاحتكار في كوريا الجنوبية الشركة مبلغ 208 ملايين دولار، بسبب إساءة استخدام مركزها المهيمن. وقد واجهت الشركة أيضا تحقيقا لمكافحة الاحتكار في اليابان وتحقيقا استمر لمدة خمس سنوات في الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أنه كان قد تم إسقاط التحقيق الأخير. وتواجه الشركة قضيتين جديدتين لمكافحة الاحتكار، واحدة في الولايات المتحدة والثانية في أوروبا. مبالغ الريع العالية التي تتقاضاها شركة كوالكوم – التي هي حسبما يقول راسجون نتيجة “وضع جيد في التكنولوجيا ومحامين جيدين” – قد تسببت في الضرر لشركات صناعة الهواتف الذكية الصينية، لأن هوامشها تحت الضغط من صناعة ناضجة. وانج يانهو، رئيس التحالف الصيني للهاتف الجوال، وهي جماعة ضغط الصناعة، يقول “إن منظمته تقدمت بشكوى إلى اللجنة تزعم فيها وجود عدة ممارسات مثيرة للشبهة” – وعلى ما يبدو أن هذا ما استدعى التحقيق مع كوالكوم.
هناك كثير لنخسره
ويجادل وانج بأن شركة كوالكوم تتعامل مع الشركات الأمريكية للهواتف الذكية بشكل مختلف عن تعاملها مع نظيراتها الصينية. ويقول “إن شركة أبل، على سبيل المثال، لا تدفع مبالغ ريع مباشرة إلى كوالكوم”. بدلاً من ذلك يتم الدفع لشركة صناعة الرقائق من قبل الشركات المصنعة لشركة أبل في الصين، مثل فوكسكون، وإن هذه المبالغ تقيَّد مقابل سعر المواد الخام وتكاليف التصنيع بدلا من سعر الجملة للهاتف، الذي يؤدي إلى انخفاض التكلفة الإجمالية. هناك شكاوى أخرى تحيط بممارسة تعرف باسم تبادل التراخيص، حيث يجب على زبائن شركة كوالكوم تسليم براءات الاختراع الخاصة بهم لشركة صناعة الرقائق في مقابل الحصول على التكنولوجيا. شركة هواوي، مجموعة معدات الاتصالات الصينية، وصفت علنا هذه الممارسة بأنها “غير عادلة”.