يوم 12 شباط 2008، وصل معاون الأمين العام في المجلس الجهادي في «حزب الله لبنان» عماد فايز مغنية الى كفرسوسة – دمشق، ودخل الى شقة جمعت بعض القادة الفلسطينيين ومسؤول وحدة في الجسم الجهادي في «حزب الله» وبعض أعضاء الحرس الثوري الايراني، للتباحث بشأن تدريبات وتنسيقات عسكرية.
وقبل نهاية الاجتماع، خرج مغنية طالباً من المجتمعين متابعة الامور والتنسيقات، وبعد دقائق دوى صوت انفجارٍ. اعتقد المجتمعون بأنهم ضمن دائرة الاستهداف، الا ان ضجيج الشارع في باحة الموقف المكشوف امام المبنى وحضور الأجهزة الأمنية السورية دفع بعضهم للنزول الى الشارع لمعرفة ما حدَث، فوُجد عماد مغنية وقد أصابته 8 كرات حديدية، منها واحدة اخترقت عيْنه وخرجت من خلف الرأس وقد قضى نحبه مباشرةً، فحمله رفاقه الى داخل سيارتهم، متّجهين مباشرة الى لبنان، واتصل المسؤول العسكري الذي كان يتواجد مع مغنية أثناء الاجتماع، بالامين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله ليبلغه الخبر متوجّهاً بالجسد الملقى في الخلف الى المستشفى حيث وافاه السيد نصرالله ليلقي النظرة الأخيرة على رفيق دربه ويودّعه ويلفّه براية الإمام الحسين، التي كان قد تسلمها من كربلاء ويعلن لعائلته ورفاقه الخبر.
لم يخرج مغنية من مطعمٍ ولم يكن يزور إحدى صديقاته كما رُوّج اخيراً، بل ذهب للاجتماع المتفَق عليه داخل مركز معروف بانه يتبع للحرس الثوري الايراني في دمشق منذ سنين طويلة. وقد وصل مغنية الى سورية قادماً من لبنان، وطلب من مرافقيه، كما جرت العادة، الذهاب الى المركز القريب من منطقة السيدة زينب، ليتوجّه هو الى المكان الذي يريده لوحده، ومن دون اي مرافقة أمنية معه، لانه كان هو المسؤول الأول والأخير عن أمنه الخاص، ولم يكن يشارك أحداً بجدول تحركاته، معتمداً على أسلوب التخفي وعلى العامل الأهمّ بأنه شخصية غير معروفة الوجه، الا انه لم يكن يعرف ان اسرائيل كانت تعلم خريطة تحرّكاته منذ اكثر من 6 اشهر قبل عملية الاغتيال، وانه اصبح لدى المخابرات التي تلاحقه بصمة بعدما كان يسمى بـ «الشبح» وان اصطياده في لبنان كان ممكناً قبل تاريخ العملية في كفرسوسة وان توقيت العملية – حسب خبراء بشأن «حزب الله» – أتت «إهداءً» من المخابرات التي اغتالته الى فريق 14 آذار ليتزامن التاريخ مع الشهر واليوم عيْنه الذي اغتيل فيه رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري بعدما اتُهم «حزب الله» بتنفيذ العملية، فأخذ الرئيس الاميركي جورج بوش حينها على عاتقه مهمة «تقليم أظافر حزب الله» بمشاركة الموساد الاسرائيلي الذي يتبع قاعدة معروفة: «ان لم تستطع هزيمة عدوّك في ميدان الحرب فاقتله بعمليات أمنية غامضة»، وهذا ما قاله رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد عملية مزارع شبعا الاخيرة، وردّ عليه السيد حسن نصرالله بانه سيردّ على عملية الاغتيال، ذلك ان الاثنين على علم ودراية تامة باللغة المستخدَمة بينهما.
وتقول المصادر المطلعة على حياة عماد مغنية ان «الخطأ الذي وقع فيه انه أصبح يتعايش مع تحركاته في المناطق التي يتحرّك بها من خلال مسؤولياته المتعددة ولم يعد يتحسس بأنه المطلوب رقم 1 دولياً الى جانب اسامة بن لادن».
والخطأ الآخر، حسب المصدر، ان مغنية اعتبر سورية الحديقة الخلفية التي يستطيع فيها ان يمارس حياته الطبيعية كأي شخص عادي، وهذا كان سبب مقتله في المكان الذي نُفذ فيه، رغم تحذير القيادة السورية له بضرورة أخذ الحيطة والحذر، فأصبح لديه منزل يتردد اليه، وحلاق ثابت يذهب اليه بشكل متواصل، ومكان اجتماع للحرس الثوري يلتقي فيه مع مسؤولي حركات المقاومة الفلسطينية والعراقية وغيرهم. وهكذا، يوم 12 شباط، خرج من المبنى ليمرّ على مسافة نحو 25 متراً من مكان سيارة الـ«باجيرو» التي كانت مركونة داخل موقف البناء المكشوف لتنفجر عبوة موضوعة في الدولاب الخلفي الاحتياطي لتنطلق منها طابات حديدية بسرعة 8400 متر في الثانية بسبب وجود مادة «سي 4» فيها لتستقرّ بمكان قاتل في جسد مغنية الذي كان يعبر ضمن شعاع الانفجار المعدّ له.
وتؤكد هذه المصادر انه «كانت هناك 3 مجموعات، مجموعة رصْد، ومجموعة تنفيذ ومجموعة إخلاء وانتشال للمنفذين، وتواجد هؤلاء كلهم قرب مسرح الاغتيال على الأرض وفي شقة مواجِهة لمركز الحرس الثوري الايراني، وكذلك تواجدت طائرة تجسس من دون طيار من نوع هارون لا يستطيع الرادار السوري كشفها لتأمين تغطية للفريق المنفذ في كفرسوسة، وكذلك وُضع جهاز 8200 الاسرائيلي بأقصى جهوزيته لجمع كافة الاتصالات والمعلومات والبيانات والهواتف الهوائية العائدة لكافة القوى الأمنية النظامية وغير النظامية في مسرح العملية لحماية المجموعات وتأمين نجاح العملية».
وبحسب المصادر نفسها فإن «اسرائيل قامت ليلة الاغتيال بمناورة استفزازية مقابل شواطئ لبنان، وبالأخص مقابل صخرة الروشة بزوارق صاروخية، وكذلك تمت مشاهدة ورصد غواصة اسرائيلية من نوع دولفن في خلدة بهدف الإلهاء وحرف النظر عما كان يُحضّر في سورية ليلة التنفيذ، وان هذه التحركات قد أحدثت ضوضاء وإرباكاً لمحاولة اتخاذ الموقف من الاجراء الاسرائيلي المستغرب، وهذا ما أبعد حزب الله عن احتمال ان تكون اسرائيل تحضّر لعملية اغتيال من هذا النوع».
وتؤكد المصادر انه «لم يكن بالإمكان معرفة كيف أُجليت المجموعات، فمن الممكن ان تكون طائرات مروحية حطت وأخذت جميع المنفذين، ومن الممكن ان تكون تسهيلات الإخلاء قد قُدمت لهم عن طريق الحدود السورية – الاردنية، إلا ان لا شيء عُرف لغاية اليوم رغم التحقيق والمتابعة».
هكذا قُتل عماد مغنية، ولكن كيف عاش؟
كُتب الكثير عن حياة مغنية وكيف انطلق من صفوف «منظمة التحرير الفلسطينية» العام 1982 ليأخذ مساراً آخر داخل صفوف «المقاومة الاسلامية»، ويلتحق بصفوف «الجهاد الاسلامي» الذي كان يتبع وزارة الاستخبارات الايرانية، فعاش ليس فقط الصراع مع اسرائيل ولكن ايضاً الصراع مع أعداء ايران، ولمع اسمه في قضية تفجير مركز المارينز والسفارة الاميركية في بيروت، وقتْل الرهائن الغربيين وخطفهم، ولم يكن هناك وجود حينها لمنظمة «حزب الله» متماسِكة ولا لأمين عام بل مجلس شورى لا يتدخل في شؤون عمل الأجهزة الايرانية في لبنان، حتى بعد تعيين اول امين عام الشيخ صبحي الطفيلي واغتيال سلفه السيد عباس الموسوي.
وكان التاريخ المفصلي لبداية تماسُك وتراصص «حزب الله» ابتداء من شهر فبراير 1992 عند اغتيال الموسوي، وانتخاب السيد حسن نصرالله خلفاً له والذي طلب من كافة التنظيمات التي كانت تعمل مع جهات عدة أمنية ايرانية ان تتوحّد تحت راية «حزب الله»، على ان يكون مغنية على رأس كافة الأجهزة الأمنية الداخلية، الأمن العسكري والأمن الخارجي، واستطاع مغنية توحيد رئاسة الأجهزة بيده، وحوّل «حزب الله» مؤسسة تجمع كوادر أمنية تعمل كلها تحت راية الأمين العام ومجلس الشورى.
وفي العام 1999 تسلم مغنية قيادة الأركان، بما فيها قيادة الأجهزة الأمنية، وأنشأ «حزب الله» مجلساً جهادياً يترأسه السيد نصرالله وعُيّن مغنية معاوناً له في هذا المجلس، مع كافة الصلاحيات المطلقة على كافة الوحدات العسكرية والأمنية، وهو شغل هذا المنصب الى حين اغتياله ليأخذه معه ويدفنه في قبره لعدم تعيين أحد من بعده بالصلاحيات ذاتها.
ودأب عماد مغنية بعمله على القيام بزيارات ولقاءات مع كافة الكوادر ومسؤولي الوحدات وكان يتنقل بين كل المناطق اللبنانية في الجنوب والبقاع والشمال وبيروت، فبدأ اسمه بالتداول وأصبح مركز قيادته معروفاً في منطقة بئر العبد. وقد قصفته اسرائيل في حرب العام 2006 ليتعرض للدمار الكامل، ما يؤكد ان اسرائيل كانت تعلم بمكان وجوده ومسؤوليته.
واجتمع مغنية مع بعض الوزراء في الحكومة اللبنانية الذين جهلوا حقيقة هويته حتى طلب احد الوزراء منه ان يعرّفه بمغنية فأجابه ان «هذه الشخصية خرافية لا وجود لها داخل حزب الله»، الى ان عرفه الوزير عند مقتله.
ويروي عارفوه من المجلس الجهادي انه كان «انسانياً بالتعامل مع الافراد والكوادر وإعطائهم الحصانة اللازمة لمنْع فصلهم من قبل مسؤول تعسفي، وانه أحضر الى الحزب كافة التطورات التكنولوجية والعلمية ومعه أصبح (حزب الله) جسماً يفوق تعداده الـ 100 الف عنصر وكادر من المعلّمين واصحاب الاختصاصات كافة».
وقد التقى عماد ببعض الصحافيين اللبنانيين، وبعضهم عرفه، وكذلك التقى مع صحافيين عالميين لم يعرفوا حقيقة هويته يوماً، رغم توجيه الكاميرا له مباشرة مثل كريستيان امانبور ايام قضية الرهائن الغربيين وقضية تيري وايت.
وحاول «حزب الله» على مدى أعوام اخذ الثأر لعماد مغنية، لكن هذه المحاولات صادفت عقبات عدة، منها عدم توافر المعلومات الأمنية في الوقت المناسب لضرب شخصيات عسكرية وحكومية كانت شاركت بقرار قتْل مغنية، ومنها عدم تواجد «الموفّقية»، ومنها ما كشفته معلومات صدرت عن مسؤولين في «حزب الله» تعاملوا مع المخابرات الاميركية والاسرائيلية وكشفوا الكثير من محاولات «حزب الله» للاخذ بالثأر، وكذلك عن امكانات ومؤسسات يملكها الحزب في الخارج، وقُدرت خسارتها من جراء الاختراق الأمني بمئات الملايين من الدولارات، الا ان «حزب الله» أبقى الحساب مفتوحاً مع اسرائيل ولم يقفله ولن يقفله.