الأهم فالأهم. نحن لسنا على وشك إعادة الثلاثينيات. الاقتصادات الكبرى في العالم لم تنغمس عمدا في سياسة “إفقار الجار” القائمة على أساس تخفيض قيمة العملة، ونزعة الحمائية ليست في وضع الانتعاش القبيح. كما يقولون في الولايات المتحدة: الوضع طبيعي، كل شيء مختل – أو كلمات بهذا المعنى.
لكن هناك تيارات تحتية إذا تجاهلناها فإنا نعرض أنفسنا للخطر. الدولار الأمريكي آخذ في الارتفاع ونمو الصادرات يتباطأ. الأمر نفسه ينطبق على فرار جماعي متوقع على نطاق واسع تعود معه الأعمال من الخارج إلى أمريكا ـ وهو ما لا يحدث حقا. في الوقت نفسه، معظم منافسي الولايات المتحدة يخفضون أسعار الفائدة ويراقبون عملاتهم وهي تهبط مقابل الدولار. وإذا استمرت هذه الاتجاهات، وستستمر، سيكون للسياسة الأمريكية رد فعل. ارتفاع الدولار ليس نزهة جميلة كما يظن الناس.
ومع ذلك، من الصعب أن نرى ما هو الشيء الذي سيوقفه عن الارتفاع. فالفجوة بين نمو أمريكا الشمالية، الذي يعتبر “متينا”، على حد تعبير جانيت ييلين، رئيسة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وبين معظم الاقتصادات الكبيرة الأخرى، تعتبر حقيقية. وكذلك الحال بالنسبة للاختلاف النقدي المتزايد. وعوائد السندات الأمريكية لأجل عشر سنوات منخفضة تاريخيا عند 1.7 في المائة فقط. لكن هذا يعتبر عائدا دسما مقارنة بألمانيا (0.3 في المائة)، واليابان (0.25 في المائة)، وحتى المملكة المتحدة (1.3 في المائة). لذلك سيستمر المستثمرون في شراء الدولار.
وسيصبح هذا أكثر وضوحا مع تحرك مجلس الاحتياطي الفيدرالي نحو رفع أسعار الفائدة للمرة الأولى منذ عقد تقريبا. والآن معظم البنوك المركزية الأخرى تخفض أسعار الفائدة لديها. ففي الأسابيع الثلاثة الماضية خفضت كل من كندا والهند وسنغافورة أسعار الإقراض. ويتوقع من أستراليا وتركيا أن تحذو حذوها. والبنكان المركزيان الأوروبي والدنماركي يتحركان داخل منطقة العوائد الاسمية السلبية. وربما هي مسألة وقت قبل أن يصل اليورو إلى مستوى التعادل مع الدولار.
هذه ليست تخفيضات في قيمة العملة على غرار الكساد العظيم. الأوروبيون وغيرهم يكثفون التسهيل الكمي لإنعاش النمو، وليس لتقويض الدولار، لكن التأثير هو نفسه.
والأخطار ذات شقين. أولا، هناك تأثير قوي على نحو متزايد على أرباح الشركات. فما يقارب نصف إيرادات الشركات الأمريكية المدرجة على مؤشر ستاندرد آند بورز 500 تأتي من الخارج، وهناك نسبة أعلى حتى من ذلك تأتي في صافي الأرباح. وكلما كان الدولار أقوى، يصبح نمو الأرباح أضعف.
في الربع الأخير من عام 2014 أبلغت كثير من الشركات الكبرى عن تراجع في الأرباح. فقد انخفضت أرباح كاتربلر بنسبة 25 في المائة. وتتوقع بروكتر آند جامبل نموا صفريا في عام 2015 بسبب قوة الدولار. وحتى “أبل” و”جوجل” حذرتا من “الرياح المعاكسة للعملة القوية”. وهذا يساعد على تفسير لماذا تراجعت أسواق الأسهم الأمريكية بنسبة 5 في المائة في كانون الثاني (يناير)، في حين ارتفع الدولار.
ثانيا، رد الفعل السياسي آخذ في الازدياد. في الأسبوع الماضي ضغط الجمهوريون والديمقراطيون على مايك فرومان، كبير مفاوضي التجارة الأمريكية، لإدراج بند التلاعب بالعملة في اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ – مع التركيز على اليابان. وبالرغم من أن الصين ليست جزءا من هذا الاتفاق، إلا أن الرنمينبي هو هدفهم الحقيقي. وأحال فرومان أسئلتهم إلى جاك ليو، وزير المالية، الذي يصر على أن الدولار القوي في مصلحة أمريكا.
تعويذة ليو تعتبر شكلية، ويمكن القول إنها مضللة. لكن كما أشار زميلي ألان بيتي، إشكالات العملة في عين الناظر: تخفيض أحد الأشخاص لقيمة العملة يعتبر السياسة النقدية لشخص آخر، ومن المستحيل تطبيق القواعد ضدها. والإصرار عليها قد يدمر فرص التوصل إلى اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ.
ومع ذلك، في الوقت الذي تتعثر فيه الصادرات وتفشل وظائف التصنيع في العودة إلى الولايات المتحدة، من المرجح للجدل السياسي أن ينمو بصوت أعلى. في الشهر الماضي، خرج كل من لورنس سمَرْز، وزير الخزانة الأمريكي الأسبق، وإد بولز، وزير المالية في حكومة الظل البريطانية، بتقرير عن الازدهار الشامل لمصلحة مركز التقدم الأمريكي. وهو يقدم مجموعة واضحة للسياسات الرامية إلى عكس انخفاض دخل الطبقة الوسطى الغربية. وهي تشمل توسيع ملكية الموظفين، وتحسين إجازة الأمومة، ورفع الحد الأدنى للأجور، وتكثيف التدريب المهني. وتعتبر النتائج التي توصل إليها التقرير مثل مخطط لحملة الانتخابات الرئاسية لهيلاري كلينتون. وبشكل مدهش، بالنظر إلى أن سمَرْز يعارض منذ فترة طويلة مثل هذه الفقرات، فإنه يوصي أيضا بأنه “ينبغي لاتفاقيات التجارة الجديدة أن تتضمن صراحة ضوابط قابلة للتنفيذ ضد التلاعب بالعملة”. مع هذا الغطاء، ليس هناك عجب أن كلا من اليسار واليمين يطالب بإدراجها.
إذن، ماذا سيكون مصير الدولار القوي؟ الجانب الإيجابي في الموضوع هو أن ييلين تستطيع الإبقاء على أسعار الفائدة عند مستوى الصفر لفترة أطول مما كان متوقعا. وهناك علامة ضئيلة على نمو الأجور والتضخم لا يلوح في أي مكان في الأفق. وكلما كان الدولار أقوى، انخفضت تكلفة الواردات ـ وانخفاض أسعار النفط يساعد أيضا.
وبحسب معايير أوروبا، فإن الولايات المتحدة تعاني مشكلة الطبقة العالية. الخبر السيئ هو أن انتعاشها قائم على الأنموذج المعروف، وهو ارتفاع الاستهلاك. في الربع الأخير من 2014، كان النمو بنسبة 2.6 في المائة مدفوعا بإنفاق الأسر، وليس بالاستثمار. والواقع أن الشركات الأمريكية تقلص في الوقت الحاضر عمليات الإنفاق المحلية.
ولأن ارتفاع الاستهلاك في الولايات المتحدة مدفوع بتكاليف الاقتراض الرخيصة وليس بسبب النمو المتزايد في مداخيل الطبقة الوسطى، فهو عرضة لحدوث تحوُّلٍ في دورة أسعار الفائدة. ولا يزال معظم الأمريكيين حذرين بشأن قوة الانتعاش. ومع أن القروض السكنية لأجل 30 عاما متاحة بفائدة تقل عن 3 في المائة، فإن ما يدعو إلى الاستغراب هو قلة عدد الذين يشترون المساكن. ومن الصعب أن نصدق أن المزيد منهم سيشترونها حين تتخذ ييلين إجراء في نهاية المطاف.
من ناحية، ليو على حق؛ الدولار القوي علامة على نجاح أمريكا. لكن ربما نكون أيضا أمام الحجة التي تدعوك إلى الحذر بخصوص ما تتمنى.