ليون برخو
قد يتصور قرائي الكرام أن الكتاب الذي أخذ بألباب الأمريكيين في العام الفائت وتربع على عرش أكثر الكتب مبيعا لدى شركة أمازون، أكبر مكتبة إلكترونية في العالم لبيع الكتب، قد يكون رواية بوليسية أو كتابا شعبيا حول مواضيع مثل عشر نصائح للتغلب على الشيخوخة أو حول العالم في عشرة أيام أو كيف تتقن الصينية في عشرة أيام.
العام الفائت في عالم القراءة والتأليف كان حقا عام توماس بيكيتي وكتابه “رأس المال في القرن الواحد والعشرين” الذي كانت جريدتنا الغراء سباقة في تقديمه للقارئ العربي في سلسلة من المقالات.
كيف تتفوق مبيعات كتاب تربو صفحاته على 700 وأغلبه أرقام وبيانات وتوجهه أكاديمي ـــ أي كتبه صاحبه كي يقرأه أقرانه ــــ على أكثر من مليوني كتاب في التداول على صفحات الأمازون؟
ولماذا يقتني الناس كتابا كهذا ويقرأونه في الحافلات وعلى المصطبات في الحدائق العامة أو وهم مستلقون على ظهورهم على شاطئ البحر؟ إضافة إلى أن الكتاب مترجم من اللغة الفرنسية، حيث إن مؤلفه يعمل أستاذا في مدرسة باريس للاقتصاد.
واحد من الأسباب الرئيسة لنجاح أي كتاب تكمن في مدى تلبيته لحاجة الناس.
أمريكا اليوم هي مركز ولولب لا بل محور الرأسمالية في العالم. من جهة أخرى هناك طبقات اجتماعية منها الطبقة الوسطى التي ترى نفسها أنها ضحية هذه الرأسمالية. كتاب بيكيتي يقول للناس في أمريكا هاكم الأسباب التي جعلت منكم طبقة مسحوقة مطلوب منها أن تعمل وتكد وتبذل جهدا مضنيا تصاعديا على مر العقود “الكتاب يتناول الشأن الرأسمالي لفترة قرن ونيف”، بينما مدخولها من حيث القيمة الشرائية في انخفاض ومساهمتها في الضريبة الحكومية في ارتفاع.
لا يكتفي بيكيتي بهذا، بل يقول لهم من هو الذي يسرقهم ويجعلهم يكدون أكثر فأكثر بينما مديونيتهم في ازدياد، ودخولهم في انخفاض وضرائبهم في ارتفاع.
ويذهب بعيدا حيث يؤشر من خلال استبيانات وأدلة لم يتم نقضها حتى الآن ـــ وربما لن يحدث ذلك ـــ إلى التغير الهائل الذي حدث في نمط الملكية لأكثر من 100 سنة ماضية وماذا سيحدث لو استمر العالم الرأسمالي على النهج ذاته، حيث إن الهوة بين فئة قليلة تملك الكثير وفئة كثيرة لا تملك إلا القليل في اتساع.
ولأنه يستقي معلوماته من فروع أو مجالات علمية وأكاديمية مختلفة ولا سيما الاجتماعية منها. يشعر القارئ أن الكتاب لا يخاطبه فقط بل يدعوه مباشرة إلى اتخاذ موقف أو القيام بعمل قبل استفحال الوضع لأن ثروة الفئة القليلة في نمو مطرد فاق كثيرا نمو الاقتصاد ذاته وأن الخسران جراء النمط الاقتصادي هذا لم يعد لأصحاب الدخول المحدودة كما كان الوضع في الماضي وحسب بل كل فرد في المجتمع عدا الأثرياء.
واليوم صار عدم المساواة في العالم الرأسمالي وتبعاته الاجتماعية والاقتصادية وغيرها على لسان الكل تقريبا في أمريكا وغيرها، وهناك ضغط شعبي هائل على أصحاب القرار لاتخاذ إجراءات مناسبة منها زيادة الضريبة على الأغنياء وخفضها على الفقراء.
والأثرياء الذين يتناولهم بيكتي بالنقد والتحليل لا يشكلون أكثر من 1 في المائة من السكان ولكنهم يملكون أكثر مما يملكه 50 في المائة من البشر. أما في البلدان التي يكثر فيها أصحاب المليارات فالوضع مخيف من حيث الأرقام، حيث تشير دراسات أجريت بعد صدور الكتاب إلى أن الـ 85 أغنى رجل في العالم يملكون أكثر مما يملكه 3.5 مليار شخص.
هذا كتاب هزّ العالم ليس الرأسمالي فقط بل كل أطيافه، ولكن من المحزن لا بل من المأساة أن ترى ترجمات له وفي لغات لا يتكلمها إلا بضعة ملايين من البشر مثل الدنماركية والنرويجية والكاتالونية، بينما لم تظهر ترجمة عربية له حتى الآن، والأنكى أن هناك أكثر من 400 مليون شخص العربية لغتهم الأم وهناك دول ذات ثراء فاحش لغتها العربية.