مرت الرأسمالية، خلال العقود الماضية، بالعديد من التحولات للتكيف مع تغيرات الواقع وأزماته. ومع هذه التحولات، ظلت فكرة “السوق” المرجعية الفكرية الأساسية للنظام الرأسمالي. وبالاعتماد على المقولة التأسيسية “دعه يعمل دعه يمر”، كان النظام الرأسمالي يطور قدراته، ويواجه التحديات، سواء المفروضة من الخارج في صورة منافسة مع الاشتراكية، أو المفروضة من الداخل التي تمثلت بالأساس في الأزمات الاقتصادية التي واجهتها الدول الرأسمالية، وكادت تعصف بالنظام الرأسمالي. وبالتزامن مع هذه التحديات، كانت السوق هي السياق المناسب للمنافسة بين قوى مختلفة تطمح جميعها إلى تعظيم أرباحها بخلق احتياجات جديدة، والبحث عن مستهلكين جدد يتكفلون باستمرار دورة السوق والنظام الرأسمالي.
وفي هذا الصدد، نشرت دورية الشئون الخارجية Foreign Affairs في عدد يناير/ فبراير 2015 دراسة بعنوان “قوة خلق السوق.. كيف يمكن للابتكار تحفيز التنمية؟”، لبريان ميزيو، وكلايتون كريستنسن، وديريك فان بيفير. تقدم الدراسة رؤية تحليلية لمقاربات التعاطي مع السوق، والكيفية التي من خلالها تسعى الكيانات الاقتصادية إلى تعظيم أرباحها. وبإلقاء الضوء على آليات الابتكار، وسياسات الشركات، تستعرض الدراسة التداعيات على معدلات النمو الاقتصادي في الدولة، وفرص العمل المتاحة.
مقاربات متنوعة للابتكار
تنطلق الدراسة من فرضية رئيسية، فحواها أن عملية النمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل ترتهن بصورة أساسية بقرارات الشركات القائمة داخل السوق، والتوجهات الاستثمارية لتلك الشركات. وهذه التوجهات الاستثمارية عادةً ما تتمحور حول فكرة الابتكار innovation التي تعكس رؤية رجال الأعمال لوضعية مؤسساتهم في السوق، وقدرتهم على تلبية احتياجات المستهلكين. وهكذا، يمكن أن ترتبط مقاربات الابتكار التي تتبناها الشركات بعملية التنمية الاقتصادية في الدولة.
بحسب الدراسة، توجد ثلاث مقاربات لعملية الابتكار والتجديد، أولاها ما يطلق عليه ابتكار الدعم sustaining innovation. والغرض من هذا النوع الاستعاضة عن المنتجات القديمة بأخرى أحدث وأفضل. وهذه المقاربة للابتكار لها أهمية جوهرية، حيث إنها تُبقي على الأسواق في حالة حيوية وتنافسية مستمرة، بيد أنها نادرًا ما تؤدي إلى خلق صافي نمو في كثير من الشركات، فضلا عن عدم إحداث توسع كبير في فرص العمل المتاحة، وذلك نظرًا إلى أن المنتج الجديد -إذا تمكَّنت الشركة من تسويقه جيدًا– سيؤدي حتمًا إلى تراجع مبيعات المنتج القديم. فعلى سبيل المثال، حينما أطلقت شركة سامسونج نموذجًا محدثًا من هاتفها الذكي، فإن مبيعاتها من الإصدارات القديمة انخفضت بشدة.
تكرر هذا الأمر مع شركة تويوتا، حينما تمكنت من تسويق سيارتها بريوس الهجين جيدًا، وهو ما أدى إلى تراجع إقبال المستهلكين على شراء السيارة كامري، فهي بمنزلة عملية استبدال وتحول استهلاكي.
ويمثل ابتكار الكفاءة efficiency innovation ثانية مقاربات الابتكار. وتستند هذه المقاربة إلى فرضية “إنتاج أكثر بتكلفة أقل”، حيث إن الشركات تسعى إلى إنتاج سلع، أو تقديم خدمات بأسعار مخفضة. واتساقًا مع هذا التوجه، عادةً ما تقلص الشركات العمالة، أو تستعين بمصادر خارجية أكثر كفاءةً outsourcing ، وتوفيرًا للنفقات وتحسينًا لمعدلات الكفاءة الإنتاجية. وتعد شركة وول مارت لبيع التجزئة من النماذج الرائدة في هذا الإطار، فهي يمكن أن تبيع المنتجات للعملاء بأسعار أقل بنسبة 15% عن الأسعار السائدة في السوق.
ويشكل ابتكار خلق السوق market creating innovation المقاربة الأخيرة. ويطمح هذا النوع من الابتكار إلى خلق أسواق جديدة للمنتجات والخدمات بحيث يكون بمقدور المستهلكين من فئات مجتمعية مختلفة الوصول إليها، فالمحك الرئيسي هنا هو عدم قصر الاستهلاك على الأثرياء فقط في المجتمع. فالشركات تسعى إلى منتجات مستحدثة، والوصول إلى مستهلكين جدد، والشروع في عملية اختراق لفئات جديدة من العملاء بالمجتمع لم تكن حصتها الاستهلاكية في السوق كبيرة.
ويرتبط ابتكار خلق السوق بإنشاء شبكات دعم وتوزيع جديدة، ومن ثم توظيف مزيد من العمالة للمشاركة في عمليات التصنيع والتوزيع وغيرها من الخدمات المرتبطة بالمنتج. وهكذا، تصبح تلك المقاربة والابتكارية قوةً دافعةً لعملية النمو الاقتصادي في الدولة.
وترتهن ابتكارات خلق السوق بنقطتين مركزيتين. فمن جهة، يتعين توافر الرؤية الكافية لدى رجال الأعمال للتوصل إلى احتياجات المستهلكين غير المحققة، وإيجاد الوسيلة الملائمة لتلبية هذه الاحتياجات. ومن جهة أخرى، يستلزم الأمر إضافة ميزة نسبية وتقنية مختلفة للمنتج تجعله أكثر جذبًا للمستهلكين. وهذه الفكرة ظهرت في كينيا، مع خدمة إم بيسا M-PESA لتحويل الأموال عبر الهواتف الذكية، فقد حاولت الخدمة معالجة مشكلة تضاؤل استهلاك الخدمات البنكية بالتركيز على وسائل الاتصال الحديثة، ومن ثم كانت النتيجة تنامي نسبة الذين يتعاملون مع البنوك من 20% من السكان في عام 2007 -وهو عام إطلاق الخدمة- إلى نحو 80% من الكينيين في الوقت الراهن.
وتتوصل الدراسة، بعد استعراض الأنواع الثلاثة من الابتكارات، إلى أن ابتكارات خلق الأسواق هي المنصة الرئيسية التي يمكن التعويل عليها في عملية النمو الاقتصادي في دول العالم، وإيجاد وظائف دائمة، وذلك بصناعة احتياجات استهلاكية جديدة، وتشجيع عملاء جدد على دخول سوق المستهلكين.
خلق الأسواق وتجارب التنمية
يُعَد النموذج الياباني من النماذج التنموية الرئيسية، حيث تذهب الأدبيات في تحليلها للنموذج إلى أن أسباب التنمية كانت كامنةً في التركيبة الوطنية للشعب الياباني، وأخلاقيات الالتزام بالعمل، فضلاً عن السياسات الإيجابية التي تبنتها الأجهزة الحكومية للخروج من حالة الاقتصاد المدمر بعد الحرب العالمية الثانية.
بيد أن العامل الأهم الذي تركز عليه الدراسة كان مرتبطًا أساسًا بابتكارات خلق الأسواق في مجالات صناعة الدرَّاجات النارية والسيارات، والإلكترونيات، والمعدات المكتبية وصناعة الصلب.
وتطرح الدراسة أمثلة رئيسية في هذا السياق، من أهمها تجربة صناعة الدرَّاجات النارية، حيث ظهرت شركات كبرى (هوندا، كاواساكي، سوزوكي، ياماها) منذ عقد الخمسينيات من القرن الماضي لتقود عملية تنمية اقتصادية.
وقد اتبعت تلك الشركات منذ البداية سياسة تستهدف الفئات غير الاستهلاكية في المجتمع بتقديم تسهيلات في السداد للحصول على المنتج الذى يحظى بجودة كبيرة. ومن هذا المنطلق، أدت المنافسة بين الشركات إلى ظهور مزيد من فرص العمل، فضلاً عن فتح أسواق خارج اليابان، والحصول على مستهلكين آخرين.
هذا النمط تكرر في مجال صناعة الإلكترونيات أيضًا، حيث توجد شركات رئيسية، مثل باناسونيك، وشارب، وسوني، وفي مجال صناعة السيارات أيضًا مع شركات مثل نيسان، وتويوتا، علاوةً على مجال صناعة الأدوات المكتبية مع شركات، مثل كانون، وكيوسيرا. فقد اتبعت هذه الشركات استراتيجية للمنافسة، سواء في السوق المحلية، أو الأسواق الخارجية، لتكون بمنزلة دافع ومحفز جوهري لعملية التنمية في اليابان.
تنتقل الدراسة إلى تجربة كوريا الجنوبية التي استفادت كثيرًا من تجربة اليابان، فالشركات الكورية استلهمت الكثير من نظيرتها في اليابان. وفي هذا الإطار، تعد تجربة شركة سامسونج من التجارب الرائدة، فالشركة تأسست شركة تجارية، لكنها أطلقت فرعًا تابعًا لها في مجال تصنيع الإلكترونيات في عام 1969، مستهدفةً بذلك تشجيع المستهلكين على دخول هذه السوق.
واعتمدت الشركة في البداية على دراسة التجربة اليابانية، وكان أول منتج إلكتروني للشركة التليفزيون (الأبيض والأسود)، وتم إنتاجه بالتعاون مع شركات يابانية، ثم بعد ذلك أنتجت الشركة مراوح إلكترونية، ومكيفات هواء منخفضة التكلفة لتشجيع الاستهلاك. وكانت المحصلة النهائية لكل ذلك أن سامسونج أصبحت اسمًا تجاريًّا مهمًّا، داخليًّا وخارجيًّا، وتسهم بنسبة رئيسية في الناتج المحلي للدولة.
وتضيف الدارسة أن تجربة الصين هي الأخرى استندت إلى فكرة خلق الأسواق شرطًا للتنمية الاقتصادية، إذ إن الشركات فتحت أسواقًا في صناعات متنوعة. فعلى سبيل المثال، ظهرت شركة هاير Haier الصينية في عام 1984 مبتكِرةً في خلق الأسواق الجديدة في مجال إنتاج الثلاجات الصغيرة للمستهلكين داخل الصين. ودخلت الشركة في شراكة مع شركة ليبهر الألمانية Liebherr بهدف نقل التكنولوجيا الحديثة. وبحلول عام 2011 ، أصبحت الشركة من الشركات العملاقة على الساحة الدولية، ولديها حصة في السوق العالمية تُقدر بنحو 7.8%. كما شهدت الصين ظهور شركة ساني sany في عام 1989 التي بدأت شركةً صغيرةً في مقاطعة هونان. وبمرور الوقت، طوَّرت الشركة من قدراتها، وأدخلت التحديثات التكنولوجية في عملية إنتاج مواد ومعدات البناء، وذلك بأسعار مناسبة للإسهام في ازدهار سوق البناء الصينية. وفي الوقت الراهن، تمتلك الشركة أعلى حصة في السوق المحلية، كما أن لديها حضورًا في الأسواق الخارجية.
وفي سياق متصل، تذكر الدراسة نموذج مستشفى أرافيند للعيون في الهند، حيث استهدف المستشفى، مع تأسيسه، تقديم خدمات طبية منخفضة التكاليف للفئات الفقيرة ذات الاستهلاك المحدود في الهند. وسرعان ما طور المستشفى قدراته بتوظيف كفاءات عالية، وتقديم مستويات خدمة متميزة ومتدرجة. وهكذا، بات المستشفى أكبر مستشفى للعيون على المستوى العالمي، ومعه حدث تطور في مجال الصحة داخل الهند لتصبح من الدول الرائدة في السياحة العلاجية.
وتقترب التجربة البرازيلية في ملامحها من التجارب السابقة. فعلى سبيل المثال، بزغت شركة إمبراير Embraer شركةً مهمَّةً في مجال صناعة الطائرات، وتبنَّت مقاربة خلق الأسواق في تعظيم أرباحها. وبالتبعية، أسهمت في التنمية الاقتصادية. فالشركة حينما بدأت أعمالها، كانت تعتمد على الإعانات الحكومية، وتركز على إنتاج الطائرات لأغراض عسكرية، لكنها فيما بعد طورت قدراتها، وشرعت في تصنيع طائرات منخفضة السعر لشركات الطيران المحلية. وفي الوقت الراهن، توسعت الشركة كثيرًا داخل السوق، فضلا عن تصنيعها طائرات للعديد من شركات الطيران العالمية، مثل يونايتد، وأمريكان، ودلتا، وجيت بلو.
النمو المستدام في الدول النامية
ثمة إشكالية تواجهها العديد من الدول النامية، ذات الموارد الطبيعية، فهذه الدول لديها موارد تُدر عليها أرباحًا طائلة، لكنها في الوقت ذاته تشهد نموًّا اقتصاديًّا محدودًا. وتفترض الدراسة أن هذا الأمر يرجع إلى أن أغلب الاستثمارات في عمليات التصنيع الخاصة بالموارد الطبيعية ترتبط بمقاربة ابتكار الكفاءة (لا ابتكار خلق السوق)، وتستهدف في المقام الأول “إنتاج أكثر بتكلفة وأسعار أقل”. وبناءً على ذلك، يسعى المديرون المسئولون، منذ بداية أعمال المشروع، إلى زيادة الإنتاجية بالحد من التوظيف، وتقليل العمالة.
وتوضح الدراسة أن الإشكالية الأخرى التي تعانيها بعض الدول النامية تتمثل في أن عمليات الاستثمار عادةً لا يتم ربطها باحتياجات المستهلكين غير المحققة، لا سيما أولئك الذين لا يمتلكون دخولاً مرتفعةً. وهكذا، تظل فوائد الاستثمار محدودة ومقصورة على المستهلكين القائمين. وبالتبعية، لا يمكن لها أن تؤسس لعملية تنمية مستدامة تُحدث فارقًا اقتصاديًّا ملحوظًا في الدول النامية.
وعطفًا على ما سبق، فإن العديد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة تكون موجهة إلى صناعات قائمة بالفعل، ولا تقدم قيمة مضافة حقيقية، إذ إن الشركات الأجنبية تبني قراراتها الاستثمارية على عامل التكلفة –التي غالبًا ما تكون منخفضة– في الدول النامية، ومن ثم لا يكون هدف كثير من الشركات المساهمة في عملية النمو الاقتصادي طويل المدى.
المعطيات السابقة لا تنفي إمكانية إضافة الاستثمار الأجنبي المباشر مزايا لاقتصادات الدول النامية تُسهم في التنمية المستدامة. وللتفرقة بين ابتكارات الكفاءة، وابتكارات خلق السوق في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، تستدعي الدراسة حالتي المكسيك وتايوان. ففي حالة المكسيك، موَّلت أغلب الاستثمارات الأجنبية (الأمريكية) ابتكارات الكفاءة في صناعات قائمة بالفعل، مثل السيارات، والأجهزة المنزلية، والمحركات الكهربائية، فيما اضطلعت الشركات في تايوان بدور مهم في التنمية الاقتصادية المستدامة، حيث تبنت الشركات استراتيجية تمزج بين ابتكارات الكفاءة، وابتكارات خلق السوق.
ومن ثم، تم استخدام المكونات الأكفأ في ابتكارات لخلق أسواق جديدة، لا سيما في مجالات مثل صناعة الكمبيوتر اللوحي ، والهواتف الذكية. وكانت المحصلة النهائية لكل ذلك مزيدًا من الازدهار الاقتصادي في تايوان.
وتخلص الدراسة إلى أن الدول النامية تحتاج إلى صياغة سياسات لتشجيع ابتكارات خلق الأسواق، وتعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص في هذا المجال، بالإضافة إلى وضع برامج تدريبية لرجال الأعمال والمستثمرين لصقل مهاراتهم، وتعزيز قدرتهم على استشراف الأسواق، ورؤية القطاعات غير المستهلكة، وكيفية اختراقها.
وهذه البرامج التدريبية يتعين أن يكون هدفها ترسيخ اقتناع ذاتي لدى رجال الأعمال بأن ابتكارات خلق الأسواق ستعود بالربح عليهم وعلى الدولة، من خلال إدخال تقنيات حديثة، ودعم عملية التنمية. ويمكن، في هذا الإطار، الاستفادة من تجربة شركة بوسكو Posco المتخصصة فى صناعة الصلب بكوريا الجنوبية، فقد أسست الشركة جامعة بوهانج للعلوم والتكنولوجيا Pohang لتوفير البرامج التعليمية والتدريبية المطلوبة لتدعيم مهارات الدارسين، ومنحهم القدرات اللازمة للابتكار والتطوير.