وفقاً لدراسة أعدتها مؤسسة النزاهة المالية العالمية الاميركية «Global Financial Integrity» توصلت فيها إلى أن حجم الاموال المشبوهة التي يتم تهريبها من لبنان قدّر بـ24,6 مليار دولار في الفترة الممتدة ما بين العامين 2003 و2012، أي ما يوازي معدّل 2,5 مليار دولار سنوياً، ما يجعل لبنان في المرتبة المتقدمة من هذا المؤشر. ووفق المنظّمة، فإن التدفّقات المالية غير المشروعة هي تدفّقات تم كسبها أو تحويلها أو استخدامها بطريقة غير شرعية ومن دون أن تمر عبر الشباكات المالية القانونية.
من جهة أخرى, فهنالك ملفات تفتح وأخرى تغلق وعلى وقع كلمة «افتح يا سمسم» وكأننا في مغارة علي بابا. كما أن المعالجات لتلك الملفات الشائكة يمر عليها المسؤولون مرور الكرام, من التلزيم بالتراضي للحوض الرابع في مرفأ بيروت ومشروع غسل الحاويات, الى ملف النفايات في مطمر الناعمة, مرورا بفضيحة الرواتب التي تدفع للمحسوبين على السياسيين في كازينو لبنان, الى فضائح تلزيم السدود وما يدور في كواليس.. وكلها ملفات تدل بأن الفساد قد عشعش في المؤسسات العامة وفي عقول النافذين وكأننا نعيش في مزرعة تدار حسب رغبات المحسوبيات. حكومة تسير نحو نفق لا نهاية له وطبقة وسطى نحو الاضمحلال واقتصاد وطني مهترئ واقتصاد مواز قائم وتجارة في السوق السوداء ناشطة والتهريب عبر الحدود متفاقم بوتيرة عالية وغيرها من نشاطات مريبة مثل غسل الأموال وتزويرها وتراجع قطاع الخدمات الغير منظم.
أن تُفتح ملفات الفساد في لبنان، هذه الأيام؛ هكذا لوجه الله، وتحت ذريعة بأن الخطة هي للقضاء فعلاً على الفساد، واقامة «دولة العدالة والقانون والحق»، فهذا ما لم نره سابقاً، ولم نعهده أو نسمعه في هذا الوطن الصغير. فلم تصدر سابقا؛ أي أحكام بحق أي مسؤول رفيع، لأن المسؤول الرفيع لا بدّ أنه صار سميناً مما أبعد عنه الشبهة بالفساد الذي يحمله أينما حل وأينما ارتحل!. وكل مواطن يعي بأن الارادة السياسية لمكافحة الفساد غير موجودة ولأن الظروف دائما غير مؤاتية.
ونعلم جيدا أن هناك كثيراً من المواطنين، وليس المسؤولين؛ حاولوا أن يكشفوا الفساد والفاسدين، ولكن دون نتيجة. كانوا يواجهون عدم جدية السلطات التنفيذية المسؤولة في محاربة الفساد، ومحاولتها احتكار العملية لنفسها، متجاهلة قوى المجتمع المدني؛ وهل كانت السلطات تريد احتكار كشف الفساد أم احتكار الفساد نفسه؟ اعتقد أنه سؤال مشروع إذا استطعنا في ظل هذه «الشفافية» أن نسأل أو نتساءل من خلاله رغم أننا لا ننفي بعض الخطوات باتجاه محاربة الفساد لأسباب تجميلية، وتغيير صورة الوطن في الخارج، دون أن يكون هناك عمل حقيقي وجدي يعود بالنفع على الوطن والمواطن.
والحقيقة؛ أننا نبارك هذه الخطوة، ونشجعها، إيماناً منا بـ «دولة القانون» التي نحلم بها، منذ قرون طويلة. ولكن الأخبار التي نسمعها الآن، تُثير تساؤلات كثيرة هل هناك استحقاقات سياسية يريدون أن يحققوها من خلال الكشف عن بعض السرقات والتجاوزات، وتقديم ضحية أو ضحيتين على مذبح الفساد، الذي يتسع لآلاف، إذ لم نقل أكثر..؟
ومن المعروف في العالم كله، أن الذي يفضح الفساد والمفسدين والسرقات والسارقين والنهب والناهبين هو الإعلام الحر. وهو الذي يكشف للقضاء أولى خيوط الفساد، لكي يمسك بها القضاء، ويبدأ بتتبع هذه الخيوط والتحقيق حتى يصل إلى الحقيقة، ويأتي بالمفسدين والناهبين والسارقين إلى العدالة. فأين الإعلام الحر الذي يجرؤ على كشف قوائم طويلة من المفسدين والناهبين والسارقين؟ وأين الإعلام الحر الذي يجرؤ على القول، بأن فلاناً قد سرق، ولكن سرقته أُخفيت لأسباب طائفية أو حزبية، وأن علاّناً قد نهب ولكن نهبه أُخفي لأسباب سياسية، وأن علتاناً قد فسد ولكن فساده سُمح به لأسباب اقتصادية.. وبدون إعلام حر ونزيه سيبقى السارقون، والناهبون، والمفسدون، والدولة تتفرج عليهم، وتنتقي بين وقت وآخر مسؤولاً من هنا ومسؤولاً من هناك لأغراض معينة في نفس يعقوب، ثم تُغلق ملف الفساد والسرقة والنهب إلى الأبد، كما حصل ويحصل. تلك هي ملفات الفساد في لبنان. تُفتح لأغراض، وتُقفل لأغراض أخرى.
ومن ثم نسأل لماذا أضحى الوضع الاقتصادي في لبنان متدهوراً إلى هذا الحد، ولماذا يعيش عشرات الآلاف تحت خط الفقر؛ إذا لم نقل أن هناك ما نسبته أقرب إلى 47% من عائلات يعيشون بأقل من ثلاثة دولارات يومياً، وهي بالكاد لا تكفي لشراء وجبة طعام لشخص واحد، فإن الجواب هو بكل بساطة، لأن الفساد هو سبب هذا الفقر المشين، وهذا الفساد المستشري تتفرج عليه السلطات التنفيذية منذ عقود، ولا تفعل شيئاً صارماً وجذرياً وعلمياً ضده؟
ثمة ضبابية فيما يتعلق بملفات الفساد، والمراقب لهذا المسار في البلاد يخرج بقناعة أقرب إلى أن التعاطي الرسمي والقانوني مع هذه الملفات ينطوي على نعومة مفرطة وخطابات تسعى لكسب الرأي العام، ولكنها لا تفعل شيئا ولا تقدم فاسدا مدعوما من قبل الفعاليات إلى القضاء، وكأن الفاسدين الذين يتحدث عنهم المجتمع وتدينهم الوثائق والوقائع مجرد أشباح يصعب الإمساك بهم.
ملفات تفتح وأخرى تغلق ويرافق كل ذلك تغيير مستمر للحكومات ومع كل تغيير تتحرك بوصلة الملاحقة بالاتجاه المعاكس، ثم تعود أدراجها بعد أن يستنفد منسوب الاستهلاك الاعلامي المحلي والخارجي لعنوان كبير اسمه مكافحة الفساد، أو يزور مسؤول سياسي مرفقا عاما ويحيل الملف الى النيابة العامة وتسطر استنابات وآخر يقدم محاضرة عن أضرار الفساد ومخططات الدولة لملاحقته، وغيرها من مظاهر التعاطي مع الأمر كمن يحوم حول الحمى، في حين أن فضائح ملفات الفساد ماثلة أمام الجميع وخطورة تفشيه تطالنا وتطال قوت أطفالنا، وفي موازاة هذا، هنالك شارع لم يهدأ منذ أشهر، وهو يطالب بوضع حد لمن مد يده على المال العام أو قبض عمولات على صفقات في الخفاء، أو تجار باعوا مواد فاسدة وكانوا سببا في قتل المواطنين.
مرة أخرى، مكافحة الفساد لا تحتاج إلى زيارات وابتسامات أمام الكاميرات، إنها تتطلب إرادة حقيقية واستجابة منطقية لأسئلة الشارع التي تزيد يوما بعد يوم بما يتناسب مع الزيادة المستمرة لحجم هذه الظاهرة التي لم تتوقف رغم التحرك الخجول من قبل بعض الوزراء، بل إن نفوذ الفساد ما يزال قويا في بلادنا، ولمن لا يرى ذلك، عليه أن يفسر لنا تلك المساحات الشاسعة من الارتخاء وغياب قوة الفعل حيال ملفات حدثتنا عنها الصحافة ولاحقتها كاميرات التلفزيون في أنحاء المعمورة لكن الحسم بشأنها يتأخر وربما سيطول الى وقت نجهله.
وحتى نتخلص من عبء المديونية الثقيل، ولكي يكون اقتصادنا متينا ومحاطا بالنزاهة وفق معايير تسعى إلى تحسين شروط حياة اللبنانيين لا زيادة العبء على حياتهم ومعيشتهم، فإن مكافحة الفساد يجب أن تغادر المربع الذي تقف فيه الآن إلى آخر رصين وغير موارب ويخضع الى الأحكام القانونية المبرمة، ويسهم لاحقا في قطع الطريق على كل من سرقوا بفسادهم أحلام المواطنين الصالحين. وسط حقائق تفيد بأن حرب الصحافة ضد الفساد يجب أن لا تتوقف، لأنها وحدها هي التي تقيّد الفساد وتضع له حدا لعدم استباحة السارقين مؤسسات الدولة وايقافهم عن تعطيل عجلة الاقتصاد الوطني وذلك يجب أن يكون من دون تراخي لمقاومة فساد الإدارة وتحويل الملف الى إدارة قادرة على دحض المسار المعطل للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.