Site icon IMLebanon

ديون متوالدة في عالم مرتبك

BankMoneyMarkets
محمد كركوتي
تجمع الديون السيادية البلدان الكبيرة والصغيرة، وتلك التي تصنف عظمى أو أقل، والدول الاستعراضية والحقيقية، والأقطار التي تتسبب في الأزمات الاقتصادية العالمية والأخرى التي تتلقى هذه الأزمات بغير ذنب. يمكن القول: هناك “اتحاد” عالمي للديون، لكن ليس وفق قواعد الاتحاد التي تمنح الأعضاء الحقوق متساوية، وتوزع عليهم المهام بعدالة، وتحاسبهم سلبا أو إيجابا. لا يوجد على الساحة العالمية، من يحمل صفة الناجي من الديون. إنها جزء أصيل من الاقتصادات الوطنية، التي تحولت إلى ركن من أركان الاقتصاد العالمي. لم تكن الديون بهذا الحجم الهائل قبل الأزمة الاقتصادية العالمية. ورغم أنها لم تكن قليلة قبل الأزمة المذكورة، إلا أنها كانت أقل عدائية بالنسبة للاقتصادات المرهونة لها، أو المرهونة لجزء منها. العالم يتخبط في بحر الديون، وسيواصل التخبط لأمد بعيد.

لبنجامين فرانكلين الذي يوصف بـ”أب الولايات المتحدة” قول شهير. ماذا قال؟ “أفضل أن أذهب إلى سريري بلا عشاء، على أن أستيقظ بالديون”. العالم “يطبق” مقولة فرانكلين ولكن بصورة معكوسة تماما. وبعض هذا العالم، يذهب إلى “السرير” بلا عشاء ويستيقظ على الديون. هناك حكومات استسهلت تحميل أزمة عام 2008 المسؤولية، في محاولات تستهدف نزع حقيقة أن الديون كانت موجودة قبل الأزمة، من الأذهان. لكن هذه الحقيقة على وجه الخصوص لا يمكن إخفاؤها، لأنها تظهر غصبا في أشكال عديدة، وفي مشكلات مختلفة، وفي محن طويلة. الحكومات الخائفة، تتناسى أن مواجهة الحقائق تبقى السبل الأفضل لحل المشكلات العالقة بها، أو لتخفيف وطأتها. والحق أن بعض البلدان الراشدة وقعت في هذه السلوكيات، إلا أنها سرعان ما عادت إلى المواجهة. بعضها بشجاعة، وبعضها الآخر بهشاشة.

تجاوزت ديون العالم 100 تريليون دولار، وارتفعت منذ منتصف عام 2007 (وهو العام الذي شهد ولادة الأزمة) 40 في المائة، حيث كان حجم الديون وقتها في حدود 70 تريليون دولار. وبحسب المؤسسات الدولية المختلفة، فقد ناهزت قيمة ديون الحكومات والأسر والشركات والمؤسسات المالية مائتي تريليون دولار في العام الماضي، وهو ما يمثل 286 في المائة من الناتج المحلي العالمي مقارنة بنسبة 269 في المائة في عام 2007. والمثير في الأمر، ليس حجم الديون الكبير جدا فحسب، بل في وتيرة نموها، في وقت كان ينبغي فيه على العالم أن يحد من الاقتراض، وأن يعمل على سد المديونية قدر المستطاع. الذي حدث، أن مئات المليارات من الدولارات أضيفت إلى الإجمالي الرهيب للديون، وسط ارتباك اقتصادي عالمي لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث.

ليست كل الحكومات تلتزم النزاهة في مسألة الديون، خصوصا تلك التي لا تزال تعيش حالة سياسية تسمح لها بإخفاء ما ترغب في إخفائه. فهناك الصين (مثلا) التي تضاعف حجم ديونها أربع مرات منذ عام الأزمة، تخفي الكثير من الأرقام الحقيقية، بما في ذلك معدلات النمو، التي تفخر بها عادة على الساحة الدولية. وهذا ينسحب حتى على أرقام المديونية الحكومية فيها. غير أن هذا النوع من السلوكيات لا يستمر طويلا، خصوصا عندما تقع أزمات مرتبطة بالأزمة الكبرى، واستحقاقات تلقائية تفرض معاييرها. الاقتراض العالمي ارتفع في الوقت الذي كان عليه أن ينخفض. وعلى أساس هذه المعادلة المقلوبة على الساحة حاليا، تشهد الغالبية العظمى من الدول، مشكلات كثيرة. بل إنها تساهم مباشرة في تقويض وتيرة النمو العالمي، دون أن ننسى المخاطر الهائلة التي تتركها على صعيد الاستقرار المالي عالميا أيضا.

والمشكلة الأكبر، أن الاقتصادات الرئيسية هي التي تمارس أعلى مستوى من الاقتراض، ولذلك فإن الناتج السلبي لهذه الممارسات سيصبغ الجميع بصبغته. فديون الولايات المتحدة قفزت من 4.5 تريليون دولار عام 2007، لتتخطى 16.5 تريليون. أما بعض دول الاتحاد الأوروبي، فتصل ديونها إلى تريليوني دولار. والمصارف الكبرى والمتوسطة حاضرة في الأزمة، ليس لحلها بل لتفاقمها. ويلفت خبراء في أوروبا (على سبيل المثال)، إلى أن المصارف الأوروبية كان لها الدور الأبرز في شراء الدين العام، ما عزز العلاقات “الخطرة” بين الدول الأوروبية والمصارف. ويتم ذلك في ظل محاولات المصرف المركزي الأوروبي والسلطات التنظيمية الأوروبية إقفال بعض المصارف.

لم يعد الاقتراض في العالم حالة عابرة، تفرضها ظروف آنية معينة. لقد أصبح منهجية اقتصادية ثابتة، بكل مخاطرها ومصائبها، والأهم بتبعاتها على الأجيال القادمة. إن الديون التي يصعب على أصحابها الإيفاء بها، تدخل عمليا في نطاق سرقة هذه الأجيال. والحق أن أولئك الذين لم يولدوا بعد، سيأتون إلى هذه الدنيا مكبلين بديون لم يقترضوها، وسيدفعون ثمن سلع لم يشتروها. وإلى أن تتغير المنهجية الاقتصادية في مسألة الاقتراض، فمن المتوقع أن يصبح حجم الدين العالمي في غضون عقد من الزمن 300 في المائة من إجمالي الناتج العالمي. إنها مصيبة تكبر الآن وتتضخم غدا.