كتب طوني أبي نجم:
طوال 30 عاماً من الاحتلال السوري للبنان نجح نظام البعث على مستويين لإبقاء سيطرته على لبنان: المستوى الأول هو اتباع سياسة “فرّق تسُد” بين اللبنانيين وحتى داخل كل طائفة، والمستوى الثاني هو الإبقاء على “بعبع” الإسلاميين بما يعني تعزيز “الإسلاموفوبيا” بمنطق تخويف المسيحيين من المسلمين.
والمفارقة أن الوقائع أثبتت أن نظام الأسد شكل الحاضنة الأساسية للإسلاميين في المنطقة واستعملهم بشكل لافت سواء بإرسالهم للقتال في العراق أو حتى لـ”تشغيلهم” في لبنان كما حصل في معركة الضنية مطلع العام 2000، أو في مجدل عنجر حين منع وزير الدفاع آنذاك الياس المر من مواجهتهم، لا بل وصل الأمر باللواء رستم غزالي الى حد تهديد المرّ مباشرة، وسواء في معركة نهر البارد وإرسال شاكر العبسي للعبث بالأمن اللبناني.
وما فعله الأسد في لبنان كرّره في سوريا بعد انطلاق الثورة الشعبية التي بدأت سلمية ولاطائفية بشريحتها الأكبر، قبل أن يعمد النظام السوري الى إطلاق جميع الإرهابيين والمتطرفين من سجونه لخلق معادلة: “أنا أو داعش”! لا بل وصلت الوقاحة بالأسد الى درجة أنه بات يدعو العالم الى التحالف معه لمحاربة الإرهاب الذي خلقه ورعاه بنفسه!
وفي لبنان، سعى بشار الأسد الى إحياء اللعبة القديمة التي أتقنها والده في طرابلس التي حاول إخضاعها بالحديد والنار في الثمانينات من القرن الماضي، قبل أن ينصبّ عليها “أمراء” يخضعون له مباشرة ويستعملهم حين يشاء.
وبهذا المعنى، شكّل الرئيس الشهيد رفيق الحريري بزعامته السنية التي تخطّت لبنان وباعتداله مصدر قلق وإزعاج دائمين، وذلك من الأسباب الأساسية التي أدت الى القرار بشطب الحريري من المعادلة عبر اغتياله.
ما سبب هذا الكلام اليوم؟
السبب الأول، هو أن “حزب الله” عاد الى الأسلوب نفسه: العمل على تغذية التطرّف السني لتخويف المسيحيين وحتى الشيعة لإبقاء تضامنهم مع “حزب الله” تحت شعار أنه يقاتل الإرهابيين السنّة. والدليل أن من ترك الأمور تتفاعل في طرابلس وامتنع عن اعتقال من يجب اعتقالهم هو مسؤول امني يغطيه “حزب الله” ويمنع تغييره. كما أن شادي المولوي الذي كان اعتقله الأمن العام قبل سنتين من أطلقه هو الرئيس نجيب ميقاتي القريب من النظام السوري والذي كلّفه “حزب الله” تشكيل الحكومة يوم أطاح بالرئيس سعد الحريري. كما أن “حزب الله” هو من عقد اتفاقاً مع “داعش” و”جبهة النصرة” قبل أكثر من سنة للانسحاب من قرى القلمون باتجاه جرود عرسال اللبنانية!
وأيضًا وأيضًا، فإنّ من يطيح بزعيم الاعتدال السني في لبنان سعد الحريري ويقطع له “وان واي تيكيت” الى الخارج إنّما يكون عملياً يخلي الساحة للتطرّف لأن الطبيعة تأبى الفراغ. ومن يغتال رموز الاعتدال من رفيق الحريري الى محمد شطح يكون يسعى الى تعزيز دور المتطرفين وليس الى محاربتهم. ومن يجتاح بيروت في 7 أيار لضرب الاعتدال يكون يعمل في خدمة المتطرفين. ومن يطوّب مجرميه “قديسين” ويبقي على نفسه خارج كل القوانين لا يكون يسعى لتعزيز الاعتدال السني ومحاربة التطرّف. ومن يذهب لقتال الشعب السوري دفاعاً عن نظام بشار الأسد المجرم إنّما يعزز التطرّف وليس الاعتدال.
في المقابل، برهن السنّة في لبنان أنّهم بأكثريتهم الساحقة مع الاعتدال السني الذي يمثله “تيار المستقبل”. وبرهنوا في 14 آذار 2005 أنهم مع شعار “لبنان أولاً” من دون تردّد. وبرهن تيار “المستقبل” في أكثر من مناسبة أنّه تيار الاعتدال بامتياز، ومؤسّسه هو من قال: “المسيحي المعتدل أقرب الى قلبي من المسلم المتطرّف”.
كل ما تقدّم لا يلغي حقيقة وجود حالات التطرّف الإسلامية التي تحاول إعادة المجتمعات الى القرون الوسطى والى بربرية ما قبل التاريخ، وتختبئ خلف الدين الإسلامي وتشوّهه وتسيء إليه بشكل لم يسبق له مثيل!
قبل أسابيع قليلة، وقبل أن “يرتجل” البعض خطوات تشكل استفزازاً للشارع الذي يغلي على وقع تطورات المنطقة، قال ابن طرابلس البار وزير العدل اللواء أشرف ريفي من قلب جونية: “طرابلس ليست قلعة المسلمين ولا جونية مرفأ المسيحيين، لبنان بكل مناطقه هو لجميع اللبنانيين”. ولاقى ريفي تصفيقاً حاراً من الحاضرين. وللتذكير أنّ ريفي هو من عارض قراراً لمجلس بلدية طرابلس حول الإشهار بالطعام في شهر رمضان الأخير، وهوأيضاً من شجرة الميلاد وزينة الميلاد في طرابلس تحديداً!
الخلاصة أنّ التقريب بين اللبنانيين ومحاربة التطرّف بكل أشكاله يحتاجان الى العمل بروحية وفاقية وتغييب الاستعراضات الفارغة التي تؤدّي الى عكس المطلوب تماماً.