رولا فرحات
يغيب الإهتمام بالطاقات الابداعية عن أولويات الدولة اللبنانية. ويؤخذ عليها عدم التحرك بديناميكية اتجاه تلك الطاقات، إذ يظهر غياب الإهتمام هذا عبر تقارير منظمة اليونسكو للعلوم والثقافة في العام 2008، التي تشير إلى أن الدول العربية، ومن ضمنها لبنان، تنفق 14.7 دولاراً فقط على الفرد في مجال البحث العلمي، بينما تنفق الولايات المتحدة 1205.9 دولار على كل مواطن في هذا المجال.
ويؤكد التقرير الأخير الصادر عن منظمة اليونسكو في العام 2010، أن مستوى الإنفاق على البحوث العلمية في العالم العربي ضعيف للغاية. فحتى في دولة كبرى مثل مصر، لا يتجاوز ما ينفق فيها على البحث العلمي 0.23% من الموازنة العامة. بينما يبلغ الإنفاق على البحوث العلمية في لبنان 0.3% من إجمالي الناتج القومي.
إضافة إلى ذلك، تتنصّل الدولة من مسؤوليتها في دعم ورعاية الأفراد ذوي الطاقات، لدى مشاركتهم في مسابقات إبداعية عالمية. وغياب الدعم يؤدي الى “اختفاء” تلك الطاقات، سواء بالهجرة الى بلدان تحتويهم داخل منظومتها العلمية، أو بخمود نشاطهم في خضم السعي وراء لقمة العيش.
المجلس الوطني للبحوث العلمية هو المؤسسة الوحيدة في لبنان التي تعنى بدعم مشاريع البحوث العلمية، خصوصاً في قطاعات الطب والصحة العامة والعلوم الهندسية وغيرها، بموازنة تتراوح بين 8 و10 ملايين دولار سنوياً، بحسب الأمين العام للمجلس معين حمزة. ويفخر حمزة في حديثه لـ “المدن”، بأن النفقات الإدارية لا تتخطى نسبتها الـ 18% من الموازنة العامة. وتؤمّن الدولة الجزء الأكبر من الموازنة، فيما تتكفل واردات الخدمات العلمية التي يقدمها المجلس بالجزء الثاني. ويبلغ عدد المشاريع المقدمة من الجامعات 200 مشروع سنوي، الا أن المجلس لا يتمكن من تمويل أكثر من 80 مشروعاً في مختلف المجالات. هذا في وقت يتزايد عدد المشاريع المقدّمة من الجامعات والبحوث العلمية، لذلك يسعى المجلس الوطني الى زيادة الموازنة، وقد تلقى وعوداً بذلك، وفق حمزة.
هذا بالنسبة إلى الجامعات، أما بالنسبة إلى المدارس، فتتناسى وزارة التربية والإدارات الرسمية الالتفات إلى الطاقات الطلابية إلا بعد فوزهم في المسابقات العالمية. وسرعان ما تنطفئ شعلة تلك الطاقات بسبب إهمال الدولة والضيق المادي الذي يمنع المبدعين من الاستمرار في تطورهم العلمي، الأمر الذي ينعكس على المستوى العلمي للبلد. وفي حديث لـ “المدن” يشرح نقيب المعلمين في المدارس الخاصة نعمة محفوض أن “الدولة اللبنانية تغيب كلياً عن حاجات الطلاب، فإضافة لعدم توفير المال للطلاب أصحاب الطاقات والابداعات، لا تكلف الدولة نفسها توفير الرعاية والدعم المعنوي لهم، أو السعي لتأمين منح لهم في الخارج، والتواصل مع الجامعات العالمية والسفارات بهدف استضافتهم في المؤسسات العلمية، وتطوير قدراتهم الإبداعية”.
ويشير محفوض الى ان “عدداً كبيراً من الطلاب اللبنانيين المبدعين والمميزين الذين شاركوا بمسابقات عالمية، أو خرجوا لإستكمال تعليمهم بهدف تعزيز قدراتهم الابداعية على نفقة الأهالي، سرعان ما عادوا بعد انخفاض قدراتهم المالية. أما الطلاب الذين ينتمون إلى بيئات فقيرة، فقد ضاعت طاقاتهم بسبب فقرهم.
ولعلّ أفضل مثال على هذا الوضع، ما حصل مع الطفل العبقري محمد المير الحائز على المرتبة الأولى في مسابقة الحساب الذهني السريع في ألمانيا، اذ لم تبادر الدولة الى تقديم تكاليف سفره على الأقل، واضطرت العائلة الى تحمل كل التكاليف التي وصلت الى 4000 دولار، بحسب ما يقوله الوالد نزيه المير.
عينة أخرى تبرأت منها الدولة والجمعيات والبلديات، أظهرت رجعية المؤسسات وتخلّفها. فبعد تأهل فريق “كلمات” المؤلف من ثلاثة أطفال للمشاركة في مسابقة للروبوت العلمي في مدينة سوتشي الروسية، أغلقت الأبواب الرسمية امام مساعدتهم للسفر. فتقاسم الأهالي التكاليف التي بلغت 7500 دولار. ولدى عودتهم، تم التواصل مع البلديات المعنية للاحتفاء بهم لكنها اعتذرت عن ذلك. ويتحدّث سميح جابر مدير جمعية “كلمات” لـ “المدن” عن فروقات واضحة ظهرت بين الوفد اللبناني والوفود الأخرى المشاركة، “حيث خصّصت كل دولة لفرقها المشاركة أساتذة متخصصين لمتابعتهم، وساعدتهم في تأمين لباس موحد، بينما عجزنا كفريق لبناني عن ذلك. هذا عدا الامتيازات التي تمتع بها التلميذ المشارك في المباريات. فدولة قطر كانت تحفز تلاميذها عبر إعطاء 100 دولار يومياً كمصروف للتلميذ و200 دولار للاستاذ”.
من جهة أخرى، ترى مصادر متابعة لهذا الملف، في حديث لـ “المدن” أن “النسبة المخصصة من الموازنة العامة لدعم البحوث العلمية والتي تشكل 0.01 % من الموازنة العامة للدولة اللبنانية غير كافية. فعندما تنفق الدولة على هذه البحوث 10 ملايين دولار سنوياً من أصل الناتج القومي والذي يبلغ 44 مليار دولار أميركي، فهذا بعينه اقصاء لطاقات الجامعة اللبنانية والمؤسسات البحثية. وعلى سبيل المثال، تمنح الدولة بحثاً بمستوى جيد، مبلغاً يتراوح بين 10 و15 ألف دولار، وهذا يأتي في إطار اخفاق الدولة في تنمية الحيز الفكري والابداعي لطلابها. وامتناع الدولة عن الاستثمار في المعرفة سيرتد على مكانتها العلمية. بمعنى آخر إن الدولة التي لا تستثمر في مفكريها ومبدعيها هي دولة متخلفة. وهذه مشكلة العالم العربي ككل، الذي لا يُنفق بالقدر الكافي على عملية الابتكار والابداع، بينما تخصص الدول الغربية نسبة 5% من عائداتها لمراكز الأبحاث.