أنطوان فرح
تتعاطى معظم دول العالم بجدية ومنطق علمي وبراغماتي مع ملف تراجع اسعار النفط. وقد أظهرت الدراسات التي أجرتها بعض الهيئات المتخصصة، وجِهات حكومية في اكثر من بلد، تأثير هذا التراجع على معظم اقتصاديات العالم.
واعتمدت الدراسات التي أُجريت على التفريق بين دول منتجة للنفط يُفترض أن تكون مُتضررة في الاجمال من تراجع الاسعار، وبين دول مستهلكة يُفترض انها مستفيدة من انخفاض الفاتورة الاستهلاكية للنفط.
في أحدث التقارير التي صدرت في هذا المجال، تقرير بحثي صادر عن معهد الاستثمار «بلاك روك»، أعطى فكرة عامة من دون تفاصيل، عن تأثير انخفاض النفط على كل بلدان العالم، ومن ضمنها لبنان. لكن المفارقة ان ما ينطبق على معظم دول العالم لا يسري على لبنان، وبعض الدول القليلة الاخرى التي تملك ظروفا شبيهة بالظروف اللبنانية.
وقد تمّ اعتماد مبدأ قياس الخسائر او الارباح في الناتج المحلي (GDP ) لكل بلد، على مقياس تراجُع برميل النفط 50 دولارا، وهو المبلغ الوسطي لتراجع الاسعار في الاشهر القليلة الماضية.
وتبيّن خريطة البحث ان لبنان موجود على قائمة الدول المستهلكة للنفط، وانه يندرج ضمن لائحة الدول التي يرتفع فيها الناتج المحلي بنسبة 4 في المئة على الاقل، بما يعني أن البحث يشير الى ارتفاع الناتج المحلي اللبناني بحوالي ملياري دولار على اساس احتساب ان مجموع هذا الناتج يقارب الـ45 مليار دولار.
هذا الرقم يحصل عليه لبنان للمرة الاولى من جهة خارجية، في حين تغيب الدراسات المحلية لاعطاء رقم دقيق عن حجم الوِفر الذي سيتحقّق جراء تراجع اسعار النفط. ومن يستمع الى الخبراء الاقتصاديين، يلاحظ وجود مجموعة كبيرة من الارقام غير الدقيقة حول هذا الموضوع.
اذا سلمنا جدلا بنتائج دراسة «بلاك روك» والتي تعطينا مبلغا اضافيا يبلغ حوالي ملياري دولار على الناتج المحلي بسبب تراجع النفط، فهذا ينبغي ان يشكل حافزا للتخطيط كيف سيتمّ التعاطي مع هذا الوفر، وفي اي اتجاه سوف تتمّ الافادة منه.
واذا حسمنا من المبلغ حصة الفرد العادي في التوفير، تبقى حصة الدولة والتي لا تقل عن مليار و200 مليون دولار. هذا المبلغ يمكن ان يُضاف الى الخزينة بشكل عادي لتخفيف العجز، وتحصين المالية العامة، كما يمكن أن يُستغل بوسائل أخرى، من ضمنها زيادة ساعات التغذية بالتيار الكهربائي.
لكن، وبسبب غياب الثقة بالمسؤولين عموما، بحيث ان الوِفر قد يضيع في متاهات الفساد والهدر، من المُستحسن قيام صندوق خاص، تحوّل اليه الاموال التي تشكل الفارق بين الفاتورة النفطية عندما كان سعر برميل النفط حوالي المئة دولار، وبين ما تدفعه الخزينة على اساس تسعيرة 50 دولارا لبرميل النفط.
والمليار و200 مليون دولار يمكن ان تشكل مبلغا جيدا لانجاز مشاريع استثمارية تحرك الاقتصاد الوطني، وتزيد حجم النمو. كذلك، يمكن الافادة من التراكمات في هذا الصندوق لتثبيت سعر البنزين، وضمان ثبات الاسعار لسنوات الى الامام. وهناك خيار الافادة من الاموال في استثمارات مالية تعطي مردودا من خلال الارباح والفوائد.
لكن الأهم من كل ذلك، ان يتم تخصيص مدخرات هذا الصندوق لضمان «راحة البال» من خلال الاحتفاظ باحتياطي مالي مقابل احتمالات التراجع في التحويلات التي يشهدها لبنان جراء تراجع مداخيل القوى العاملة اللبنانية في الدول النفطية. واذا استمر التراجع في اسعار النفط وصَحّت بعض التوقعات التي أصدرتها مؤسسات دولية مرموقة، والتي تفيد بأن البرميل قد يصل الى 20 دولارا، في هذه الحالة ستكون أزمة التحويلات في أوجها.
وسيواجه لبنان معضلة حادة في تمويل الدولة بسبب تراجع النمو في الودائع المصرفية التي تُستخدم للتمويل. وفي المقابل، سيرتفع الوِفر الحكومي الى حوالي الملياري دولار سنويا، وهو رقم مقبول قد يساعد في سد النقص في التحويلات، ويمنع قيام أزمة تمويل على مستوى الدولة.
أما اذا حافظ النفط على معدل اسعاره الحالية وتراوح بين 50 و60 دولارا للبرميل، فهذا يعني ان لبنان سيكون امام فرصة لمراكمة الوِفر من دون القلق من تراجع التحويلات، على اعتبار ان الاسعار الحالية تسمح بالاعتقاد أن موازنات دول الخليج ستبقى شبه ثابتة، مع تراجعات قد لا تؤثر بشكل جذري على مداخيل اللبنانيين العاملين هناك،
او في اسوأ الاحوال فان التراجع لن يشكل اي خطر على قدرات المصارف المحلية على الاستمرار في التمويل. لكن، وفي المقابل، سيتمكّن لبنان من تغذية الصندوق الاحتياطي، وستتمكّن الدولة من استخدام هذه الاموال في دعم الاقتصاد في اكثر من اتجاه، شرط الافادة من الاموال في الاتجاه الصحيح. وهو أمر من المرجّح انه لن يحصل.