ديفيد كرو وأندرو وارد
منذ إصابتها بالتهاب الكبد الوبائي “سي” قبل 25 عاما، كان الخوف الأكبر بالنسبة إلى لوسيندا بورتر أنها قد تُعدي شخصا آخر بالفيروس القاتل. تقول: “كلما جرحت نفسي ورأيت الدم، أشعر بالذعر”.
في غضون أيام من إصابتها بالمرض، انتابها وهن شديد وضعف وفقدان للشهية. وأمضت معظم العقدين التاليين وهي محاصرة “بالتشويش الذهني على مستوى منخفض”، وغير قادرة على التركيز، وعرضة لنوبات حادة من ألم العضلات والحمى.
حاولت اتباع دورتين علاجيتين، كلتاهما فشلت. وبحلول عام 2003 كان عليها مواجهة احتمال أن تموت بالمرض الذي يمكن أن يؤدي إلى تليف الكبد وإصابتها بالسرطان. تقول بورتر، وهي ممرضة: “رأيت الناس وهم يموتون من هذا (…) إنه أحد أسوأ حالات الوفاة الموجودة”.
وبعد عشر سنوات شاركت في تجربة سريرية لدواء جديد يسمى هارفوني Harvoni. وفي غضون أيام عرفت أن العلاج يعمل بنجاح، وبعد ثلاثة أشهر أعلن الأطباء شفاءها على نحو فعال.
بورتر واحدة من 140 ألف أمريكي تم شفاؤهم من المرض عن طريق أحد أدوية التهاب الكبد الوبائي “سي” من شركة جلياد للعلوم التي تم إطلاقها قبل عامين. هارفوني وسوفالدي، النسخة القديمة من حبوب الدواء، ينظر إليهما على أنهما “أدوية معجزة”، تقدم معدلات شفاء بنسبة تبلغ أكثر من 94 في المائة.
لكن شركة جلياد أصبحت رمزا لأسعار الأدوية الخارجة عن السيطرة في الولايات المتحدة. فالعلاج لمدة 12 أسبوعا يكلف 94500 دولار، أي 1125 دولارا لكل حبة، ما جذب انتباها غير مرغوب فيه من السياسيين والأطباء، الذين يعتبرون الشركة واحدة من أكثر الشركات المكروهة بين صانعي الأدوية.
بيتر باخ، طبيب ومدير في مركز ميموريال سلون كيترينج للسرطان في نيويورك، يعبر عن وجهات نظر كثيرين في مهنته عندما وصف ما تفعله الشركة بـ “السلوك المُفسِد”. يقول: “جلياد تعتبر قضية اختبار في محكمة الرأي العام”. ويضيف: “لقد أصبحت عنوانا بارزا يجسد ارتفاع أسعار الأدوية”.
وسلّط هذا الخلاف الضوء أيضا على السؤال الأوسع، وهو ما إذا كان يمكن لشركات الأدوية الدفاع عن أنموذج تسعيرها المرتفع في أكبر سوق للرعاية الصحية في العالم. الأدلة في الأسابيع الأخيرة تشير إلى أنها معركة تخاطر شركة الأدوية الكبيرة بخسارتها، ما يثير تساؤلات حول الأنموذج الاقتصادي لهذه الصناعة التي تعتمد بشكل كبير على الأرباح الأمريكية لمكافأة المساهمين وتمويل أدوية جديدة.
وبعد أقل من عام على ظهورها في السوق، واجهت جلياد حملة منسقة لخفض سعر هارفوني. واغتنمت شركات التأمين وأصحاب العمل الذين يمولون الرعاية الصحية في الولايات المتحدة فرصة نشأت من خلال الموافقة في كانون الأول (ديسمبر) الماضي على دواء منافس لعلاج التهاب الكبد الوبائي “سي” من تصنيع شركة AbbVie، وهي شركة أدوية أمريكية أخرى، وفرضوا خصومات كبيرة على كلتا الشركتين مقابل تمكينهما من الوصول إلى المرضى.
ستيف ميلر
مثل هذه الأساليب النشطة لم تكن شائعة في الولايات المتحدة من قبل، حيث كان اختيار المريض للدواء هو المسيطر. لكن هناك مؤشرات متزايدة على سلوك مماثل في مجالات أخرى، بما في ذلك العلاجات لمرضى الربو والسكري. فالمجموعات التي تمول الرعاية الصحية الأمريكية تتخذ نهجا أكثر صرامة لاحتواء التكاليف.
باسكال سوريو، الرئيس التنفيذي لاسترا زينيكا، الذي كان في معركة حول أسعار أدوية خاصة بالجهاز التنفسي مع منافسته في المملكة المتحدة، جلاكسو سميث كلاين، يقول: “دون أي شك هناك ضغط على الأسعار في الولايات المتحدة”. ويضيف: “لقد رأينا ما حدث في [التهاب الكبد الوبائي “سي”] والإنسولين، ونحن نرى ذلك في الجهاز التنفسي. وستصبح القضية في علاج الأورام. السوق (…) أكبر تحديا مما كانت عليه قبل خمس سنوات”.
ضغوط الأسعار
يقول النقاد إن القانون الأمريكي يحظر التدخل المباشر من الحكومة الفدرالية في أسعار الأدوية، وهو شهادة على قوة الضغط التي تتمتع بها شركات الأدوية الكبرى في الكونجرس. لكن إصلاحات الرئيس باراك أوباما في الرعاية الصحية – قانون الرعاية بأسعار معقولة – أوجد حوافز للسيطرة على التكاليف، بينما حول الاندماج بين مقدمي الرعاية الصحية القدرة على المساومة من شركات الأدوية إلى زبائنها.
واقتران هذه القوى في الولايات المتحدة يمكن أن يؤدي إلى كبح ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية التي ـ تشكل 18 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي ـ تتجاوز بكثير تلك التي لدى أي دولة أخرى.
وتمثل أسعار الأدوية التي تعطى ضمن وصفات طبية نحو عشر هذه التكاليف، التي ارتفعت نحو 11 في المائة في العام الماضي، وفقا لمؤشر تروفيرز للأدوية. وهذا يجعل شركات الأدوية هدفا رئيسا لحملة كفاءة ينظر إليها كثير من الخبراء على أنها كان يجب أن تحدث منذ وقت طويل.
حبوب جلياد لالتهاب الكبد الوبائي “سي” أثبتت أنها مثيرة للجدل إلى حد كبير لأنها تجمع بين دواء مكلف وعدد كبير من السكان المرضى. حبة الدواء بقيمة ألف دولار ليس أمرا لم يسمع أحد عنه من قبل، ولكن عادة ما تكون العقاقير باهظة الثمن جدا موجهة لعلاج الأمراض النادرة، لأنه لا بد للشركة أن تتقاضى مبالغ أكثر لكل مريض لتعويض تكاليفها.
لكن عدد الأشخاص الذين يعانون التهاب الكبد الوبائي “سي” يعتبر ضخما ـ أكثر من ثلاثة ملايين مصاب في الولايات المتحدة وحدها. وبمجرد أن أطلقت جلياد عقاقيرها الجديدة، حذر أطباء من أنها تخاطر بتفجير النظام القائم. لكن العائد للمساهمين في جلياد كان ضخما، كما هو موضح في أرباح الشركة لعام 2014، التي ارتفعت أكثر من ثلاثة أضعاف لتصل إلى 13.3 مليار دولار.
ستيف ميلر، كبير الإداريين الطبيين في إكسبريس سكريبتس، أكبر شركة لإدارة المنافع الصيدلانية، التي تتفاوض مع شركات الأدوية، وضع جلياد نصب عينيه منذ أكثر من عام، بعد أن رفضت تقديم تخفيضات معقولة.
ويعتبر الدكتور ميلر نفسه أن ارتفاع تكاليف الأدوية آفة، وبالتالي شرع في هندسة حرب أسعار بمجرد أن أطلقت AbbVie دواءها المنافس، فيكيراVikera في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. ووافق الدكتور ميلر على علاج مرضى إكسبريس سكريبتس بدواء فيكيرا حصريا مقابل خصومات ضخمة، لم يكشف النقاب عنها. وكان رد فعل السوق سريعا: شطب المستثمرون أكثر من 20 مليار دولار من القيمة السوقية لجلياد في يوم واحد.
بعد ذلك كشفت جلياد النقاب عن صفقات حصرية خاصة بها مع كثير من المنافسين لشركة إكسبريس سكريبتس، لكنها حذرت هذا الشهر المساهمين من أنها مضطرة لتقديم خصومات تبلغ 50 في المائة تقريبا، وهو تصريح دفع مرة أخرى أسهمها لهبوط حاد ولعمليات بيع حادة لأسهم شركات الأدوية الأخرى.
وكانت جلاكسو سميث كلاين ضحية أخرى لنهج الدكتور ميلر الجريء في المفاوضات. فقد شهدت هذه المجموعة البريطانية هبوطا حادا في الإيرادات في السنة الماضية، بعد أن سُحب دواؤها أدفير Advair (لعلاج الربو) من قائمة الأدوية المفضلة لدى إكسبريس سكريبتس – ما يعني من الناحية العملية أنه سُحِب من عدد كبير من خطط التأمين. وعاد الدواء إلى القائمة هذا العام بعد أن عرضت الشركة خصما.
يقول أندرو ويتي، الرئيس التنفيذي في جلاكسو: “سترون الكثير من هذا الأمر. أنا بالطبع غير مرتاح لذلك، لأني أعتقد أن خيار المريض مهم، لكن في النهاية إذا كانت السوق ستتحرك في هذا الاتجاه فعلينا الانخراط معها (…) لأن هذا هو بالتأكيد أمر تحرك بصورة عجيبة خلال الشهور الـ 18 الماضية”.
مواجهة الشركات الكبرى
تقول إكسبريس سكريبتس ومنافسوها إن تلك المناوشات هي فقط البداية لعلاقة ذات طابع صدامي أكثر من قبل مع شركات الأدوية الكبرى، مشيرين إلى أن ساحة المعركة التالية هي العقاقير المضادة لمرض السرطان، وهي واحدة من المجالات الأكثر ربحية للصناعة، لأن كثيرا من الأدوية تصل أسعارها إلى أكثر 100 ألف دولار في السنة.
لكن الدكتور ميلر يعترف بأن الوضع سيكون أصعب بكثير من حيث ترويض تكلفة عقاقير السرطان. في حالة التهاب الكبد الوبائي “سي” كان هناك منتج منافس قدم أيضا علاجا فعالا، لكن “إظهار نجاح دواء للسرطان يعتبر أكثر غموضا. إذا كان لديك ورم في حالة انكماش، لكنه لا يطيل فرصة البقاء على قيد الحياة، هل يعد ذلك استجابة جيدة أم لا؟”.
وهناك العديد من العقاقير المضادة لمرض السرطان التي تطيل فعلا فرصة البقاء على قيد الحياة، لكن ليس لفترة طويلة جدا، مثل عقار سيرامزا من إلي ليلي، الذي يطيل حياة المرضى المصابين بسرطان الرئة لأقل من ستة أسابيع بتكلفة تبلغ نحو 24 ألف دولار.
جون ليكلايتر، الرئيس التنفيذي لإيلي ليلي، يعتبر فكرة أن الأدوية التي تعمل على التحسن التدريجي لا تستحق دفع المال مقابلها “كلام فارغ”. ويقول: “لو عدت إلى منتصف التسعينيات، أعتقد أن متوسط البقاء على قيد الحياة كان تسعة أشهر. لكن بهذه الزيادات التدريجية من شهر إلى اثنين، وصلنا إلى نقطة الآن هي 16 أو 18 شهرا”.
أيضا هناك انتقادات لتكتيكات الصناعة التي يقول النقاد إنها تبقي على أسعار الأدوية مرتفعة بشكل مصطنع. في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، فاز إيريك شنايدرمان، مدعي عام نيويورك، بأمر منع ابتدائي ضد شركة أكتافيس، يقضي بمنعها من إثارة ما يسمى “التحول القسري” إلى عقار ناميندا، وهو علاجها لمرض الزهايمر. وأوقفت أكتافيس بيع الحبوب تلك وطلبت من الأطباء أن يحولوا المرضى إلى عقار أحدث، هو ناميندا إكس آر.
وتنتهي صلاحية براءة اختراع الدواء القديم في تموز (يوليو)، عندها سيواجه منافسة من إصدارات “مقلدة” موازية، بينما العقار الجديد يعتبر محميا حتى عام 2025.
يقول برينت سوندرز، الرئيس التنفيذي لأكتافيس، عن أمر المنع: “إذا بدأنا في أخذ الكثير من قرارات الأطباء من حيث وصف الأدوية التي يعتقدون أن مرضاهم بحاجة إليها، عندها سنبدأ الهبوط في منحدر زلق ليس جيدا للرعاية الصحية”. وجانب كبير من أسباب التضخم في أسعار الأدوية يعود إلى هيكل نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، الذي يفتقر إلى ذلك النوع من مفاوضي الحكومة المركزية الموجود في العديد من ترتيبات “المشتري المنفرد” الشائعة في أوروبا. على إدارة الغذاء والدواء فقط أن تقرر ما إذا كان الدواء آمنا وفعالا، وليس ما إذا كان ذا قيمة جيدة مقابل سعره.
القرار في هذا الشأن متروك لشركات التأمين الفردية، التي لم تتقن موضوع السيطرة على الأسعار – الأمر الذي يُرجِعه الساخرون إلى حقيقة أن أسعار الأدوية الأكثر ارتفاعا تستخدَم لتبرير ارتفاع أقساط التأمين.
يشار إلى أنه يُمنع على “ميديكير”، برنامج حكومي يمول تغطية الرعاية الصحية لقرابة 50 مليون شخص معظمهم من الأمريكيين كبار السن، التفاوض حول أي خصومات على الأدوية.
تمويل الأبحاث
يقول التنفيذيون في صناعة الأدوية إن قدرة الشركات على تسعير الأدوية في الولايات المتحدة وفقا لما ستتحمله السوق، تسمح لها بتغطية التكلفة الكبيرة لإيجاد علاجات جديدة تكون ثورية في الغالب، لأن تكلفة تطوير عقار جديد والحصول على موافقة عليه تصل الآن إلى 2.6 مليار دولار، وفقا لمركز تافتس لدراسة تطوير العقاقير، مقارنة بـ 802 مليون دولار في عام 2003.
وإذا كان هناك شيء واحد يتفق عليه كل من قطاع صناعة الأدوية وأولئك الذين يدفعون فواتير الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، فهو أن الولايات المتحدة تدفع أكثر مما يجب مقارنة بالدول الغربية الأخرى، ولا سيما أوروبا. ومع أن الولايات المتحدة تشكل فقط 4.6 في المائة من سكان العالم، إلا أنها مسؤولة عن 33 في المائة من الإنفاق العالمي على الأدوية.
أما بقية العالم فهو بالكاد يتدافع لتسديد حصة أكبر من الفاتورة. وتحاول كل من أوروبا واليابان، اللتين تواجهان سكانا في مرحلة الشيخوخة وتحديات كبيرة في المالية العامة، احتواء تكاليف الرعاية الصحية المتصاعدة. أما الاقتصادات النامية، مثل الصين والبرازيل، فهي تريد أيضا الحفاظ على سقف محكم على أسعار الأدوية في الوقت الذي تقوم فيه بتوسيع النظم الصحية التي لا تزال هشة.
في الوقت نفسه، في الهند، واجهت شركات صناعة الأدوية الغربية تحديات قوية متعلقة ببراءات الاختراع، في محاولة لجعل أدويتها متاحة أمام المنافسة منخفضة التكلفة من الشركات المنافسة المحلية التي تصنع الأدوية البديلة.
وإذا تم تخفيض العلاوات على الأسعار في الولايات المتحدة، فإنها لا بد أن تأتي مباشرة من هوامش الصناعة. ولأن متوسط هامش الربح الإجمالي هو 67 في المائة، يقول المنتقدون إن شركات الأدوية الكبيرة بإمكانها تحمل الضربة. لكن التنفيذيين في الصناعة يحذرون من أنه في الوقت الذي يحوم فيه المساهمون النشطون حول الصناعة، بحثا عن تحقيق وفورات في مجال الكفاءة، فإن أي نقص في الأرباح قد يفرض ضغطا حتميا على الأبحاث والتطوير.
وتفشل مثل هذه الحجج في التأثير في الدكتور ميلر، الذي يقول إن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار. “يتم الضغط على العامل الأمريكي من أجل تمويل الابتكار للجميع. لم يعد بإمكان أمريكا أن تكون وحدها المسؤولة عن جميع أرباح شركات الأدوية”.