منذ أن تبوأ النفط جزءا مهما من الاسـتـراتيجيــــة الجيوسـياسيـــــة العالمية، بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت أسعاره وإمداداته من القضايا ذات الأسبقية التي توليها جميع دول العالم جل اهتماماتها، ومتعلقة بأمنها الاقتصادي والصناعي والاجتماعي والسياسي والعسكري، مما ميز سلعة كالنفط وأسعاره صعودا أو هبوطا، بحساسيتها المفرطة؛ نظرا للتقلبات في العرض والطلب في الأسواق البترولية العالمية.
والنفط يمثل المحرك الرئيس للاقتصاد العالمي، والعصب الصناعي لدول العالم قاطبة، فهو من أهم المعايير الرئيسة التي لها تأثير عالمي سواء من الناحية الاقتصادية أم السياسية والعسكرية، بل هو بحق أهم الدعامات التي ترتكز عليها الحضارة الإنسانية، ومن بين جميع مصادر الطاقة الأخرى يعد النفط في الوقت الحاضر من أكثر السلع الاستراتيجية تداولا في العالم، وبالتالي فإن النمو الاقتصادي العالمي المرتقب في عام 2015، مرتبط ارتباطا ملازما بنمو الطلب عليه، وبالتالي أسعاره التي تعد من جل اهتمامات المملكة، التي يقوم اقتصادها بشكل مباشر على الإيرادات النفطية من كمية الإنتاج وتصدير خام النفط. أي أنها بدورها تعتمد على عوامل محورية تحدد أسعار النفط، وهي: الطلب العالمي على النفط، وحالة الاقتصاد الدولي، وحجم الإنتاج، والحصص التقديرية لمنظمة أوبك.
وتذبذب أسعار النفط هو سمة من سمات السوق ولكن ما جرى منذ منتصف العام الماضي هو انهيار في الأسعار غير معهود، حيث بدأت أسعار النفط بالانخفاض وواصل الانخفاض بشكل كبير ومتسارع في سعره إلى ما دون الخمسين مما يعني انهيارا في الأسعار نظرا لأن الفرق بين الانهيار للأسعار وبين الهبوط المتدرج للأسعار هو العنصر الزمني. وأن ما يجري الآن من انخفاض لسعر النفط من سقف 114 دولارا للبرميل إلى أدنى من 50 دولارا، بمعدل تدنٍّ بلغ أكثر من 50 في المائة خلال الأشهر الأخيرة، وقابلية أن يستمر الانخفاض بوتيرة سريعة لمعدل ربما يكون بمقدار يزيد على خمس مرات ليبلغ 20 دولارا للبرميل الواحد خلال الشهور القليلة القادمة كما أوضح ذلك تقرير مجموعة سيتي الدولية في العدد الصادر في العاشر من شهر فبراير Feb 10, 2015 7:06 a.m Edward Morse, Citigroup’s global head of commodity research. يجعل ذلك انهيارا في أسعار النفط.
ويرى البعض من المراقبين أن انهيار أسعار النفط في الآونة الأخيرة هو نتيجة طبيعية للعوامل الاقتصادية وفي مقدمتها تزايد الإنتاج من الصخور والرمال النفطية في الولايات المتحدة وتراجع الاستهلاك النفطي في الصين وارتفاع سعر صرف الدولار مقابل العملات الرئيسة الأخرى، وفي الجهة المقابلة يرى البعض الآخر أن الأهداف الجيوسياسية لعبت دورا ليس خفيا في ما يحدث. وأن ما يحدث الآن من انخفاض للأسعار ليس جزءا من دورة اقتصادية طبيعية، بل هناك ما يشير إلى وجود قرار سياسي خلف هذا الانهيار نظرا لأن النفط يلعب دورا كبيرا في السياسة الدولية وبشكل متزايد خلال العقود الماضية، وفي وقتنا الحاضر في الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا، ولاسيما أن النفط كان منذ عامين قد بدأ استخدامه سياسيا وكان من أهم بنود حزم العقوبات الاقتصادية المفروضة من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على دول مثل إيران على خلفية برنامجها النووي، وأخيرا العقوبات الاقتصادية على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، فانهيار أسعار النفط بشكل مفاجئ ومتسارع خلال فترة قصيرة جدا أمر يثير الكثير من الأسئلة بحقيقة وجود تدخلات سياسية، ولاسيما أن التاريخ الحديث الذي يزخر بالأزمات الكبرى التي استخدم فيها النفط كسلاح فعال للضغط على دولة أو أكثر لتحقيق أهداف سياسية.
ولكن الرأي الأرجح في تقدير الكثيرين أن الأسباب الحقيقية وراء انهيار الأسعار هي مجموعة من المتغيرات السياسية والاقتصادية والمالية العالمية التي تزامنت وتفاعلت مع بعضها البعض أدت إلى انخفاض الطلب على النفط وبالتالي الانهيار في الأسعار، فهناك انكماش لم يكن متوقعا في الاقتصاد الأوروبي والصيني والياباني، وتزامن مع ارتفاع قيمة الدولار أمام العملات الرئيسة الأخرى، مما جعل استيراد النفط أكثر كلفة على الاقتصادات المتباطئة وبالتالي انخفض حجم الطلب على النفط في الوقت الذي ارتفع حجم الإنتاج العالمي من خارج “أوبك”، وتأثير المضاربات في أوضاع غير مستقرة، ولاسيما في ظل التوقعات الاقتصادية المتشائمة لعام 2015.
خلاصة القول، وبغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى انهيار أسعار النفط، وهو موضوع مهم سنتطرق له لاحقا، إلا أن ما يهمنا حاليا هو كيفية التعامل مع موضوع أسعار البترول المنخفضة إلى حد الانهيار نظرا لأن اقتصادنا مرتبط ارتباطا عضويا بعوائد النفط، وبالتالي فإن الدورة الاقتصادية التي نمر بها الآن في بداية نزولها مما يوجب مراجعة الاستراتيجية الاقتصادية برمتها، وتدارك الأمر بسرعة لتقليل الاعتماد على النفط، فالتحديات عميقة ولم نكن أكثر اعتمادا على إيرادات النفط مما نحن عليه الآن، وبذلك فإن الحاجة أصبحت ملحة للانتقال إلى مرحلة تنويع مصادر الاقتصاد لمواجهة متغيرات الدخل؛ وخفض الاعتماد على إيرادات النفط.