عصام الجردي
بات من المرجح ترحيل عقد القمة الاقتصادية والاجتماعية العربية إلى أجل غير معلوم، وكان يفترض أن تستضيفها تونس في يناير/كانون الثاني الماضي تبعاً لقرار القمة الاقتصادية والاجتماعية الأخيرة التي عقدت في الرياض في الشهر نفسه من 2011 . لم تقدم مصادر معنية اتصلنا بها أي إيضاحات عن أسباب إرجاء الموعد ولا عن الموعد الجديد . الحكومة التونسية كانت طلبت الإرجاء في سبتمبر/أيلول 2014 لأنها منهمكة بالتحضير للانتخابات العامة في أكتوبر/ تشرين الأول وللانتخابات الرئاسية في الشهر الذي يليه . الاستنتاج هو أن التطورات السياسية والأمنية العربية والإقليمية هي وراء الإرجاء، والأمر ليس مفاجئاً البتة .
مرة جديدة يتعطل عمل واحدة من أهم مؤسسات العمل الاقتصادي والتنموي العربي . بديهي، لأن شروط نجاح المؤتمر غير مضمونة حضوراً ونتائج والتزاماً . القمة الاقتصادية والاجتماعية العربية تكرست في المرتبة الثانية أهمية في جامعة الدول العربية بعد القمة السياسية . وتعقد كل سنتين . حصل ذلك بإجماع القادة العرب في قمة الكويت ،2009 وقمتي شرم الشيخ والرياض 2011 و2013 . وقد اعتبر القرار إنجازاً كبيراً للعمل الاقتصادي والتنموي العربي افتقدناه من زمان، في وقت تتوجه دول في العالم ينأى بعضها عن بعضها الآخر مساحات واسعة في الجفرافيا والثقافة واللغة وأشكال النظم السياسية والاقتصادية، نحو إقامة تجمعات وأقاليم اقتصادية وتجارية واستثمارية . من المفارقات البائسة أن الميزات التفاضلية لدينا كدول عربية لتأسيس تكتل اقتصادي عربي تغدو هي نفسها عناصر مناوئة في المجال نفسه . العوامل الجيوسياسية في المنطقة العربية وتفرعاتها الأمنية هي الشغل الشاغل الآن لكل الدول العربية، ولا نتحدث هنا عن سوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال .
العوامل الجيوسياسية تتحكم في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ العرب باقتصاداتهم ومواردهم وموازناتهم . لم تعد الشؤون الاقتصادية والمالية والتخطيط إلى الغد، وليدة عقول الخبرة والتقنية فحسب، بل تبعاً لحاجات الدفاع والأمن والاستقرار السياسي ولا الدراسات الإكتوارية هي دليل الإيرادات والنفقات الوطنية والحسابات الوطنية . لكن من قال إن الاقتصاد والاجتماع والتنمية ليسوا في صلب مكونات العوامل الجيوسياسية تلك . بالغاً ما بلغ الشطط لدى أي باحث لا يمكنه اسقاط تلك المكونات من بنية الأسباب الموضوعية الأشمل التي أفضت إلى هذه الفوضى العارمة في الشارع العربي، وصولاً إلى منظمات على غرار “داعش” وأخواتها . ليست عربة محمد البوعزيزي هي التي قاومت مصفحات الشرطة التونسية في يناير/كانون الثاني 2010 . ولا إحراق محمد نفسه رداً على صفعة “شرطية نبيلة” في ولاية سيدي بو زيد هو الذي خلع زين الدين بن علي . إنه تراكم الفقر والعوز والبطالة . الحال نفسها مع الطفلة طلّ الملوحي في سوريا وتوكل كرمان في اليمن .
تُرى هل أسقط في أيدينا من أين نبدأ؟ لا . الأزمات تبدأ من جذرها كما أفنان الشجر وغصونها والثمار . هذه ليست دعوة للتهاون مع الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي وجبه المخاطر الوطنية والإقليمية . بل حض على توفير كل الإجراءات لدرء المخاطر الأمنية وتأمين موفور من الأمان والاستقرار . لكن من دون تبهيت الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، مكوناً أساسياً من مكونات العوامل الجيوسياسية، والمخاطر الوطنية والإقليمية التي تواجه بلداننا العربية وشعوبها . كل دولة عربية فرادى عليها استيعاب هذا الأمر . العمل العربي المشترك هو الكفيل بعدم تحول الميزات التفاضلية للإقليم العربي، لاسيما في الشأن الاقتصادي والتنموي معوقات في وجه التنمية . لذلك، لا عذر للشقيقة تونس مسقط البوعزيزي في عدم تحديد موعد القمة الاقتصادية والاجتماعية العربية التي عرضت في قمة الرياض أن تكون دولتها المضيفة . ولا عذر للدول العربية الوازنة ألاّ تعمل على انعقاد المؤتمر .
2015 سنة مفترضة بموجب قرارات القمم الاقتصادية والاجتماعية لقيام الاتحاد الجمركي العربي، ركيزة لسوق عربية موحدة في 2020 . للتذكير، هناك قرار عربي في 1964 بإنشاء السوق العربية المشتركة . بعد سنة تقرر في 1965 اعتماد تعرفة جمركية عربية موحدة . انعقدت القمة أو لم تنعقد، المشروع مرجأ بدوره وإلى زمن غير محدد . ومعه قضايا البطالة العربية من نحو 20 في المئة (25% بين الشباب) والأمن الغذائي العربي بفجوة تقترب من 50 مليار دولار أمريكي . للتذكير أيضاً، 150 مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة غير مستغلة في السودان فقط . هناك أيضاً “مارشال يقبض على السلطة ويتبختر بعصا المارشالية”، وكأنه بطل موقعة ديان بيان فو أو ستالين غراد! في السودان أيضاً مشاهد مريعة من البؤس والحرمان والجوع . المكان الأرحب “لاصطياد الطرائد” وغسل أدمغة الشباب .
لعل القمة الاقتصادية والاجتماعية العربية المقبلة، تتبنى حين انعقادها، استراتيجياً اقتصادية وتنموية عربية موحدة، تأخذ في الاعتبار الظروف الجيوسياسية في المنطقة وتطوراتها . الأمر الذي يؤسس ركيزة لأي عمل اقتصادي تنموي عربي مشترك وللمشروعات العربية ذوات الصلة . ترك القمة في المجهول، اختراق جيوسياسي أيضاً .