محمد الصياد
بسبب طول أمد الأزمة أصبح الانقسام واضحاً في أوروبا بين ألمانيا التي تدفع مستشارتها أنجيلا ميركل بنجاعة مذهبها التقشفي، وبين بقية بلدان الاتحاد الأوروبي عملياً، خصوصاً بعد أن فقدت ميركل نصيرها الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، حيث اكتسبت نزعتهما التقشفية مسمى “ميركوزي” (Merkozy)، أي حاصل جمع اسمي ميركل وسركوزي .
ولكن مشكلة أوروبا وعصبتها “الاتحاد الأوروبي” أنهما يفتقدان إلى القائد الكاريزمي الذي يمكن أن يقف بمرئياته الاقتصادية والنقدية التحفيزية (Stimulative Monitory Policy) في وجه المستشارة الألمانية القوية . لذا فإن بلدان الاتحاد الأوروبي “الطرفية” (periphery states)، تعول على قيادة الثنائي الفرنسي مانويل فالس (رئيس الوزراء الفرنسي)، والإيطالي ماتيو رينزي (رئيس الوزراء الإيطالي) نظراً لرؤيتهما الاقتصادية المشتركة التي تحمل حاصل جمع اسميهما “فالينزي” (Vallenzi)، وموقفهما المشترك المناهض لتوجهات برلين الاقتصادية التقشفية في البلدان المأزومة مالياً داخل الاتحاد . علماً بأنهما يمثلان ثاني وثالث أكبر اقتصادين داخل منطقة اليورو .
ويدفع الرجلان بمقاربة اعتماد محفزات النمو الاقتصادي على الصعيد الوطني عوضاً عن سياسة التقشف التي تفرضها برلين عنوةً على بقية أعضاء منظومة الاتحاد الأوروبي من الدول الضعيفة التي تعاني ضائقة مالية . ولكن مشكلة هذا الثنائي فالس/اينزي أن اقتصادي بلديهما هشَّان، وهما معرضان للانكسار في أية لحظة على الطريقة اليونانية، وذلك برسم سنوات من مراكمة الضعف الذي يعتري بنيتهما من دون أن يتوفر البَلَدان خلالها على حكومات شجاعة تصارح شعبيهما بحقيقة خطورة التمادي سيرا على ذات المنوال الانمائي غير المنتج .
وهذا يعني أن مشكلاتهما الداخلية لا تساعدهما كثيراً على التفرغ لتحديهما الأوروبي بالعمل سوياً لإنشاء ما يشبه اللوبي داخل منطقة اليورو، لتحشيد الممانعين خلفهما في وجه الروشتة الألمانية التقشفية التي تُذكّر بروشتة صندوق النقد الدولي للدول النامية إذا ما طلبت الأخيرة معونته أو استشارته .
ثم إن هذا لن يحدث حتى لو أرادت فرنسا مانويل فالس وإيطاليا ماتيو رينزي انشاء “محور الضعفاء” في منطقة اليورو (18 دولة عضواً من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ال 28) . لأن الحملة الشعواء ضد مثل هذا الاحتمال قد بدأت تشنها وسائط الإعلام الألمانية وحتى البريطانية التي تحاول تشجيع رئيس الحكومة الإيطالية ماتيو رينزي على إبعاده عن نظيره الفرنسي مانويل فالس ودفعه للانعطاف باتجاه سياسات تاتشرية من قبيل ما أقرته حكومته من تشريعات، مثل الخفض المجزي للضرائب على الشركات، وخفض مساهمات الشركات في الضمان الاجتماعي، وتحرير سوق العمل بالسماح للشركات بالتسريح . عشية الانتخابات اليونانية، وصف موقع “هافينغتون بوست” فرصة وصول ائتلاف اليسار الراديكالي المعروف اختصارا باسم “سيريزا” (Syriza) إلى السلطة، بأنها “تجربة هزة أرضية” .
(Earthquake test) في محاولة توصيف وقع نتائجها على القارة الأوروبية، وذلك عطفاً على الشعارات الانتخابية التي رفعها هذا الائتلاف الحزبي مثل استعادة الكرامة الوطنية، وبداية النهاية للمهانة المالية الوطنية لألمانيا وللترويكا (الاتحاد الأوروبي، البنك المركزي الأوروبي، صندوق النقد الدولي) التي صممت برنامج التقشف المتطرف لليونانيين ثمناً لإقراضهم، وإعادة التفاوض على هذه القروض البالغ إجماليها 359 مليار دولار باتجاه شطب بعضها وإعادة جدولة بعضها الآخر، حيث يتهم الخبراء الاقتصاديون ائتلاف “سيريزا “وتعني العودة للجذور” الترويكا والدائنين بالتسبب في إفقار قطاع عريض من الشعب اليوناني .
المثير في الأمر، أن انتصار ائتلاف سيريزا الذي تأكد بإعلان نتائج الانتخابات اليونانية مساء الأحد 25 يناير/كانون الثاني ،2015 كان قد سبقه بيومين، أي في الثاني والعشرين من يناير، إعلان البنك المركزي الأوروبي عن بدء تنفيذ برنامج تسهيل كمي(Quantitative Easing) اعتباراً من شهر مارس/آذار المقبل حتى نهاية شهر سبتمبر/أيلول ،2016 سيقوم البنك بموجبه بشراء ما إجماليه 14 .1 تريليون دولار من السندات الحكومية والخاصة، بمعدل 8 .68 مليار دولار شهرياً من السوق الثانوي، بهدف ضخ سيولة هائلة في اقتصادات منطقة اليورو، لإخراج اقتصاداتها من الركود الذي يخنقها منذ الأزمة المالية العالمية في عام ،2008 وذلك على الضد من اعتراضات ألمانيا ومصرفها المركزي (Bundesbank) على هذا الإجراء الذي اعتبرته برلين بمثابة ضربة موجهة لما اعتبرته النتائج الايجابية للاصلاحات التي نفذتها بلدانه على مدى السنوات التي أعقبت الأزمة .
والذي لاشك فيه، أن انتصار ائتلاف سيريزا، وتخلي البنك المركزي الأوروبي عن سياسته النقدية المتحفظة، بالحذو حذو كل من مجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي وبنك إنجلترا، في تطبيق سياسة التسهيل الكمي، سوف يقويان الاتجاهات المروجة للرؤية المشتركة لكل من رئيس الحكومة الإيطالية ماتيو رينزي ورئيس الحكومة الفرنسية مانويل فالس . باعتبار أن انتصار سيريزا، وتحويل البنك المركزي الأوروبي وجهة سياسته النقدية، يعدان انتصاراً لرؤيتهما المشتركة المناهضة لسياسة التقشف، وهزيمة مدوية للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل .