Site icon IMLebanon

مداخيل الدولة تقلّ يوماً بعد يوم والمفاجأة في آذار

GovermentRevenues
بروفسور جاسم عجاقة

في كل مرة هناك أزمة سياسية أو اجتماعية، يتمّ حلّ الخلاف فيها على حساب المالية العامة. هذا الأمر الذي كان جائزاً في السابق، لم يعد ممكناً حالياً نظراً لتردي مداخيل الدولة اللبنانية خصوصاً مع دخول معاهدات التبادل التجاري حيّز التنفيذ في شهر آذار، والتي ستحرم الخزينة من معظم رسوم الجمارك.

أثبت الأداء السياسي المُعتمد في لبنان منذ خمسينات القرن الماضي، أنّ المالية العامة هي التي تدفع ثمن كل مصالحة سياسية واجتماعية. هذا الأمر هو وليد الفكر العشائري المبنيّ على التوافق وعلى مبدأ الميثاق الضروري للعيش المشترك الذي تحوّل من عَيش مشترك طائفي إلى عَيش مشترك مذهبي.

وبالنظر إلى الملفات الإجتماعية والسياسية خلال الأعوام العشرة الماضية، نرى أنّ مبدأ المحافظة على العيش المشترك فرض ثمناً باهظاً على خزينة الدولة عبر تسويات تُحمّل هذه الخزينة أعباء على مدى سنين طويلة لا يستطيع النمو الاقتصادي المُحقق أن يُغطي كلفتها.

وإذا راجعنا مسألة التوظيف في الدولة اللبنانية خلال العام المنصرم، نلاحظ أنه تمّ إدخال الآلاف من الموظفين إلى الدولة اللبنانية بين أساتذة وعمّال وموظفين، كل ذلك ضمن تسويات سياسية. ومن الملاحظ إقرار هذه الملفات في الفترة التي تسبق الانتخابات، ما يعني الإفراط في المزايدات.

هذا الأمر ليس سيئاً بالمطلق لو كان مترافقاً مع برنامج للَجم العجز وإقرار إصلاحات في الهيكلية الإدارية للدولة بهدف تحسين إنتاجية موظفي أوّل ربّ عمل في لبنان – الدولة. لا بل على العكس تمّ الاستمرار في الإنفاق بشكل كبير، مع العلم أنّ الأزمة السورية التي بدأت أخذت بفرض تداعياتها السلبية على لبنان إقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.

وفي التفاصيل أنّ الإنفاق العام زاد بنسبة 15,0% في العام 2012 و6,2% في العام 2013 وقلّ بنسبة 1,5% في العام 2014 بفعل انخفاض أسعار النفط التي قَللت الفاتورة الحرارية، وبالتالي التحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان بـ171 مليون دولار أميركي (الأرقام من كانون الثاني 2014 إلى تشرين الأول 2014).

أمّا الإيرادات فقد زادت بنسبة 3,1% في العام 2014 وانخفضت بنسبة 2,2% في العام 2013 لتعود وتزداد بنسبة 11,5% في العام 2014 تحت تأثير عدة عوامل على رأسها زيادة إيرادات قطاع الاتصالات الذي تمّ تحفيزه بواسطة خفض الأسعار (الأرقام على الفترة نفسها).

هذا الأمر خلق عجزاً بقيمة 1,514 مليون د.أ. في العام 2011، و2,676 في العام 2012، و3,519 في العام 2013 و2,438 مليون د.أ. في العام 2014 (أيضاً على الفترة الزمنية نفسها). وهذا العجز يُمكن ملاحظة تحوّله إلى دين عام عبر مقارنة قيمة زيادة الدين العام نسبة إلى زيادة العجز.

أمّا إجمالي العجز/الفائض الأولي فقد بلغ +1,830 مليون د.أ. في العام 2011، و+434 في العام 2012، و-313 في العام 2013 و1,126 مليون د.أ. في العام 2014 (أيضاً على الفترة الزمنية نفسها).

وأهمية الميزان الأولي أنه يكشف قدرة الدولة على تغطية خدمة الدين العام الذي تُظهر الأرقام أنّه لا يُغطي الأربعة مليارات دولار أميركي سنوياً التي يدفعها لبنان كخدمة دين عام. هذا يعني أنّ الدين العام يزيد تلقائياً بقيمة الفرق بين الميزان الأولي وخدمة الدين العام إضافة إلى العجز المُسجّل.

رسوم الجمارك ومدخول الدولة

لا يُخفى على أحد أنه في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته كانت رسوم الجمارك تُشكل 50% من مدخول الدولة. اليوم، ومع توقيع لبنان معاهدات ثنائية مع العديد من الدول الأوروبية، قَلّت رسوم الجمارك بنسبة كبيرة لدرجة أنه في شهر آذار المُقبل لن يكون هناك رسوم إلّا على البضائع الصينية التي بالأصل لا تؤمن مدخولاً كافياً نظراً لضعف قيمتها. وهذا الأمر سيؤدي إلى تغيير هيكلي بمدخول الخزينة سيصعب معه تعويض قيمة الخسارة الناتجة عن قلة الرسوم.

وكنتيجة تلقائية سيزيد عجز الموازنة بنفس قيمة الخفض بالرسوم الجمركية، وسيتحوّل هذا العجز إلى دين عام ستزيد معه خدمة الدين العام. هذا الأمر دفع بوزارة المال إلى الحديث عن البدء بتخفيض الفوائد على سندات الخزينة اللبنانية لكي يتمّ تعويض الزيادة في خدمة الدين العام. ما يطرح السؤال الأساسي عن جاذبية سندات الخزينة في ظل وضع مالي مُترد وفي ظل انخفاض الفائدة عليها والتي تُعتبر – أي الأخيرة – العامل الأساسي لجذب الإستثمارات.

من هنا نستنتج أنه، ومع زيادة الدين العام الناتج عن زيادة العجز، ستعمد المصارف التجارية ومصرف لبنان إلى زيادة مساهمتها في سندات الخزينة إلى نسَب تُقارب الـ 90%، ما سيدفع وكالات التصنيف الإئتماني إلى تخفيض التصنيف الإئتماني للبنان وبالتحديد للمصارف التجارية لتعرّضها لدين الدولة على رغم الودائع والأموال الخاصة التي تفوق الـ 170 مليار دولار أميركي.

خطر الإنهيار المالي

من الواضح ممّا تقدّم أنّ حجم القطاع المصرفي البالغ 170 مليار دولار هو أربع مرات حجم الاقتصاد اللبناني. وهذا الأمر يُطمئن أنه لا خوف على إفلاس الدولة ما دامت سياسة المصرف المركزي اللبناني تدعم تمويل عجز الدولة ودينها.

إلّا أنّ أقلّ مشكلة قد تطال القطاع المصرفي اللبناني ستنعكس كارثياً على الاقتصاد اللبناني، وكلنا يتذكر الأزمة القبرصية التي ضربت القطاع المصرفي، والتي أدّت إلى إفلاس قبرص والطلب من الإتحاد الأوروبي دعم القطاع المصرفي لتفادي الكارثة.

وإذا كانت سياسة حاكم مصرف لبنان الحكيمة قد أعفَت لبنان من الانهيار، إلّا أنّ هامش تحرّكه بدأ يقلّ. وهذا ما دفعه إلى أخذ المبادرة بتمويل القطاعات الاقتصادية لتحفيز النمو الاقتصادي والحصول على نمو قد يُغطي قسماً من العجز.

ثلاثية الإستثمار والإستهلاك والإصلاحات

من هنا تبرز إلى العلن أهمية ثلاثية الإستثمار والإستهلاك والإصلاحات، التي وممّا لا شك فيه، تظهر كالحل الوحيد أمام الحكومة اللبنانية:

أولاً: زيادة الإستثمار وذلك عبر زيادة مساهمة القطاع المصرفي في الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم وعبر إقرار قانون الشراكة بين القطاع الخاص والقطاع العام. وهذا ما سيسمح بخلق فرص عمل، وبالتالي زيادة الدخل الفردي.

ثانياً: زيادة الإستهلاك: إنّ زيادة الدخل الفردي ستؤدي إلى زيادة الإستهلاك التي يتوجّب دعمها بإقرار قانون السلامة الغذائية وقانون المنافسة اللذين سيسمحان من دون أدنى شك بتخفيض الأسعار، وبالتالي زيادة الإستهلاك.

ثالثاً: القيام بإصلاحات تشمل الهيكلية الإدارية للدولة وأجهزتها بهدف زيادة إنتاجية الموظفين في القطاع العام. أيضاً هناك الإصلاحات الاقتصادية والتي تقضي بتحرير القطاعات الاقتصادية التي تحتكرها الدولة بالدرجة الأولى كالكهرباء والإتصالات وبَسط سلطة الدولة المالية على كل المرافق العامة.

في الختام، نُجدد الطلب إلى حكومة الرئيس تمام سلام بالسير في خطة إصلاح إقتصادية تُترجم في موازنة عامة تسمح للإقتصاد اللبناني والمالية العامة بعبور قطوع الأتون السوري الداعشي الذي يُهدد لبنان، والذي من المحتمل أن نرى آثاره مع ذوبان الثلج.