منذ أسابيع تعلم الدولة أن المناطق الداخلية تعاني نقصاً حاداً في مادة المازوت. نقصٌ ظهر بعد انتشار معلومات عن ارتفاع أسعار المشتقات النفطية قريباً، فباشر الموردون والموزعون والمحطات بالتخزين والاحتكار طمعاً بأرباح أكثر. منذ أيام تنتظر الدولة وصول العاصفة و»تهوّل» و»تحذّر» منها، لكنها لم تفعل شيئاً ما عدا التهويل، بل على العكس، هناك معلومات تتردد عن إسهام منشآت النفط المملوكة من الدولة في زيادة محنة الناس.
الناس في المناطق الجبلية يعانون فعلاً. «تموت العالم كلها، الله لا يردا، المهم المافيا تجمّع مصاري، نحنا الفقرا مين بيسأل عنا أصلاً؟»، يصرخ نائب رئيس اتحاد بلديات جرد القيطع حاتم عثمان. المناطق الممتدة من بلدة البزال إلى فنيدق، على ارتفاع 1200 متر فوق سطح البحر، «اختفى» فيها المازوت. يقول عثمان إنه «يوجد في الجرد فقط 4 محطات وقود أنهت جميعها المخزون المتوافر لديها». يشرح أن المشكلة سببها الموردون «الذين أحضروا 5000 ليتر فقط لتغطية المنطقة عوض 20 ألف ليتر تحتاجها، ما اضطر أصحاب المحطات إلى تقنين البيع». يستطرد عثمان غاضباً: «عارفين انو في عاصفة جايي ليش ما بعتولنا مازوت؟!».
قطع شوقي العبد القاطن في البقاع مسافة 10 كيلومترات إلى محطة «ميدكو» في زحلة ليعود بصفيحة واحدة، لأن العامل رفض بيعه أكثر. بلغت التوترات الناجمة عن نقص المازوت حدّ العراك، إذ تشاجر رضوان مصطفى مع عامل المحطة في تعنايل بعد أن طلب منه ثمن صفيحة المازوت 20 ألف ليرة، فيما عداد المحطة والتسعيرة يشيران إلى 15100 ليرة، أي بفارق 5 آلاف ليرة.
صاحب إحدى محطات المحروقات في البقاع حاول الدفاع عن نفسه لبيعه صفيحة المازوت بـ18 ألف ليرة للمستهلك، يشير إلى أنه تسلّم أول من أمس 3000 ليتر من مادة المازوت بسعر 17000 ليرة من أحد متعهدي المحروقات في البقاع.
في الجنوب، يواجه المواطنون الصقيع بالبطانيات، فبعدما تعذر على أحمد الحسن الحصول على المازوت، وجد أن البطانيات وحدها تخفف من البرد القارس. العامل في إحدى محطات الوقود في بلدة شقرا الجنوبية، لا يملك المازوت لتدفئة أولاده وزوجته، يقول: «نفد المازوت منذ أيام من المحطة، ولتعبئة غالون صغير عليّ أن أقطع كيلومترات عدّة. تخيّل أن من لا يملكون سيارات يقضون لياليهم من دون تدفئة».
بدأ الناس في البقاع والجنوب تغيير وسائل التدفئة لديهم واستخدام الحطب بعد أن اشتدت أزمة المازوت، هذه هي حال «الخاضعين للعبة الاحتكارات».
تختلف الحجج المقدّمة من قبل أطراف «اللعبة»، فأصحاب الشركات المستوردة يوجهون الأنظار نحو المعابر غير الشرعية إلى سوريا حيث يصل سعر صفيحة المازوت في السوق السوداء إلى 17 دولاراً. شركات التوزيع تقول إن المنشآت تمتنع عن تسليمها الكميات المطلوبة. أصحاب المحطات يتهمون الشركات بعدم تسليمهم المازوت، ووزارة الاقتصاد والتجارة، صاحبة الوصاية على حماية المستهلك، لا تزال «تضرب بيد من حديد»، إلى درجة أنها لم تتمكن حتى من الحصول على جداول تسليم الشركات المستوردة. المعطيات التي يقدمها اللاعبون تفضح الكميات الكبيرة من المازوت الموجودة في «البلد».
يؤكد وزير الطاقة والمياه أرتور نظريان أن إحصاءات الشركات المستوردة للنفط أظهرت منذ شهر و25 يوماً زيادة في الكميات المستوردة بلغت 120 مليون ليتر عن معدل السنة السابقة. المنشآت سلمت أمس 6 ملايين ليتر، أي أكثر من المعدل المعتاد بـ 3000 طن. خلال شهر ونصف صُدِّر مليونان و280 ألف ليتر فقط إلى سوريا، ما يعني نسبة قليلة جداً مقارنة بالكميات الموجودة. صاحب إحدى الشركات النفطية (رفض ذكر اسمه) أكد أنها أخرجت أمس 4 ملايين ليتر من المازوت الأخضر. هذا يعني أنه اُخرج إلى السوق أمس 10 ملايين ليتر من المازوت. رئيس نقابة المحطات في لبنان سامي البراكس، أكد لـ«الأخبار» احتكار البعض للمازوت في البقاع، وأنّ «المشكلة بدأت عند الشركات التي كانت تكثف من عمليات التسليم خلال تدني السعر العالمي، وعندما عاد السعر للارتفاع وازداد الطلب في السوق السوري باسعار تفوق التسعيرة الرسمية، قطعت الشركات التسليم للسوق المحلية وفتحت على السوق السورية». يضيف البراكس أن «هناك 1500 محطة غير مرخصة، تتزود بالوقود من السوق الحرة، وتبيعها بأسعار السوق السوداء».
وزير الاقتصاد آلان حكيم كان ينتظر أمس جداول التسليم من كافة الشركات المستوردة خلال الأربعة أسابيع الماضية ليحدد الإجراءات الواجب اتخاذها بحق المحتكرين، إلا أن «الجداول أتت ناقصة من ناحية الكميات والتسليم»، وفق ما يؤكده لـ»الأخبار». لذلك قرر الوزير إرسال مراقبي الوزارة في جولة تفقدية على شركات التوزيع لتحديد 3 نقاط: سحب جداول التسليم، التأكد من المخزون، ومعرفة الكميات التي جرى توزيعها. كذلك طلب حكيم من القوى الأمنية الحد من التصدير الشرعي إلى سوريا ووقف التصدير غير الشرعي. يرى حكيم أن ما يحصل هو «جريمة بحق المواطن اللبناني، ولن تمرّ الأمور هكذا. هناك أشخاص سيُقاضَون وتُسحَب الرخص منهم». يشير إلى أن «هيئات الإغاثة في البقاع توزّع صهاريج المازوت بسعر أعلى للاجئين». لكن على حكيم أن «يضرب بيد من حديد» في المنشآت النفطية أيضاً، إذ ينفي صاحب إحدى الشركات أن تكون المنشآت تسلّم الكميات التي تُعلنها، «فبعدما كان يتسلم 70 ألف ليتر في اليوم، أصبح يتسلم فقط 20 ألف ليتر»، مؤكداً أن المنشآت تمارس اللعبة نفسها التي يقوم بها التجار: تخزين الكميات إلى أن ترتفع الأسعار أكثر. يلفت إلى أن استهلاك لبنان السنوي من المازوت يبلغ مليوناً و300 ألف طن، والزيادة التي تحدّث عنها نظريان ناتجة من التدفق السوري وازدياد الاستهلاك. أمّا الحديث الذي يُشاع عن التهريب إلى سوريا، فهو مبالغ فيه لإخفاء عمليات التخزين المحلية بانتظار ارتفاع الأسعار أكثر، يعترف التاجر بأن الكميات موجودة في الخزانات ولن تظهر قبل أن ترتفع الأسعار 1500 ليرة إضافية. يشير مصدر مطلع على الملف إلى أن السعر الحالي لصفيحة المازوت (14900 ليرة) لا يحقق الأرباح التي يتطلع إليها التجار، وبالتالي يستمرون في تخزين الكميات بانتظار الأسبوعين المقبلين، إذ من المتوقع أن يرتفع السعر 800 ليرة الأسبوع المقبل و1000 ليرة في الأسبوع الذي يليه، عندها «سيغرق» البلد بالمازوت الذي كان مخبأً لدى الشركات وأصحاب المحطات.