تمثل زيارة الرئيس بوتين للقاهرة مرحلة جديدة لتقوية التعاون الاقتصادي والعسكري بين البلدين خاصة لما تمتلكه روسيا من عناصر قوة قل أن يرصدها الخبراء في الشئون الدولية ، فخلال السنوات الأخيرة شهدت روسيا تغييرات جذرية، حيث بدأت تنشط في التعامل مع مشاكل المجتمع الدولي، وتشارك بفاعلية في حل الأزمات العالمية، وحصلت على العضوية الكاملة في مجموعة الدول الصناعية المتقدمة. كما تمكنت الشركات الروسية من تحقيق نمو كبير في رءوس اموالها وأنشطتها الاقتصادية والتجارية، وهو ما وفر الفرصة لكي تصبح روسيا لاعبا أساسيا في السوق العالمية. وتنتهج روسيا اليوم سياسة حازمة بل متشددة في الحرص على مصالحها الوطنية وتتصدى لكل محاولات التدخل في شئونها الداخلية في المجالين السياسي والاجتماعي. وفي المجال الاقتصادي تحتفظ روسيا بحقها في اختيار من تراه مناسبا للشراكة التجارية من دون أن تقسم بلدان العالم إلى «بلدان حرة» و»بلدان مارقة». ولم تعد روسيا تكبد نفسها خسائر اقتصادية كبيرة مقابل أن يدين لها زعيم هذه أو تلك من الدول الأجنبية بالولاء السياسي. ولم تعد تعتمد استراتيجية روسيا الجديدة في التعامل مع بلدان العالم على أسلوب المواجهة والصراع بين الشرق والغرب، بل أصبحت تحرص على تطوير التعاون السياسي والاقتصادي والثقافي مع دول الغرب والشرق على أرضية المنفعة المتبادلة. وقد نبهنا في مقالات سابقة أن اقتصاد المصالح هو المسيطر على خريطة الاقتصاد العالمي ، وأن اقتصاديات السوق تجعلني حرا في اختيار ما يناسب مصلحتى القومية . وحتى لحظة إرساء العطاءات النووية المصرية لإنشاء مفاعل الضبعة على شركة بكتيل الأمريكية – عارضنا بشدة هذا الاتجاه وأوضحنا في أكثر من مقالة تحت عنوان « هل تفوز روسياء ببناء المفاعل النووي المصري» وأحصينا مميزات هذا الاتجاه حتى يقتنع صانع القرار بحسن توجهنا نحو الروس لبناء المفاعل النووي في الضبعة . فإبداء الاستعداد من قبل إحدى الدول المتقدمة صناعيا لتوريد المحطة النووية هو من أهم العوامل لتحقيق وتنفيذ أي مشروع نووى . فقد أصبح نقل التقنية النووية حاليا يرتبط أكثر وأكثر مع السياسات الدولية ، على غير ما هو الحال بالنسبة للمجالات التقنية التقليدية . بالإضافة إلى أن استمرار توريد الوقود وتقديم خدمات دورة الوقود طوال عمر المحطة يعتبر واحدا من أهم النواحي الصعبة بل لعله من أصعب المسائل وأكثرها إثارة للتشكك ، ويجب أن يكون موضعا للعناية الشديدة خاصة بعد أن أصبحت بعض خدمات دورة الوقود ، مثل إثراء اليورانيوم وإعادة معالج الوقود المستنفد ، احتكارا لعدد صغير من الدول كما تخضع لرقابة ولاتفاقيات حكومية خاصة . ويحتاج الأمر إلى فترة انتظار طويلة للحصول على هذه الخدمات بما يقتضي التزامات مالية مسبقة ونظم إدارة وتخطيط معقد . ولم يعد اليورانيوم اليوم متاحا في السوق المفتوحة كما استمر سعر العجينة الصفراء في سوق اليورانيوم في ارتفاع مستمر خلال السنوات الأخيرة . ومن ثم يجب تأمين توريد الوقود والحصول على خدمات دورة الوقود طوال عمر المحطة مما يقتضي ذلك الحصول على ضمانات كافية من المورد والمصنع قبل إنهاء إجراءات التعاقد على المشروع . فالروس أكثر وضوحا في تعاملاتهم مع مثل هذه البرامج المعقدة ، ويعتبر موضوع توليد الكهرباء من المحطات النووية من الموضوعات الشائكة والمعقدة ، ويصعب علي جهة معينة أن تلم بكل أبعاده وبحياد علمي ، ورغم أن موضوع الطاقة النووية يعكس درجة تقدم المجتمع في المجالات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، إلا أن هناك مفارقة غاية الغرابة ، حيث ان اقتصاديات الطاقة النووية هي من العلوم البعيدة عن الدقة ، فهناك من العناصر التي لا يمكن التحقق منها وتشمل تقدير رأس المال المستثمر ، وتكاليف دورة الوقود ، والمتغيرات الاقتصادية المختلفة وتكاليف تصفية المحطات النووية وتكاليف معالجة ودفن النفايات النووية ، كذلك الفروض المستخدمة في الحسابات والتحاليل الاقتصادية ، كلهاتؤدي في نهاية الأمر إلي أحكام مضللة . كما أن التقديرات التي تقدمها الشركات الصانعة للمحطات النووية أقل بكثير من التكاليف الفعلية . حيث انها لا تتضمن توريد كامل المعدات ولا الوقود ولا نقل ومعالجة النفايات ولا تصفية تلك المفاعلات، ولا حتي ضمان توريد الوقود علي مدار تشغيل المحطة النووية.
اليوم يسدل الستار على نهاية هذا الاختيار بصحة وجهة نظرنا منذ أكثر من عشرين عاما . اليوم روسيا بدأت تستعيد دورها كقوة عظمى بما لديها من رصيد حضاري وثقافي، وقد لعبت التغيرات الجذرية التي قامت الدولة بإدخالها على سياسات روسيا دورا أساسيا في تحقيق ذلك، وأصبحت روسيا الجديدة كطرف فاعل في المجتمع الدولي.
وتطمح روسيا اليوم لأن تشغل الصدارة في سوق الطاقة وخاصة الطاقة النووية والغاز لما يتوافر لديها من أكبر احتياطي عالمي من الوقود النووي . ومن اليورانيوم المخصب اللازم لتشغيل محطات الطاقة النووية، اضافة لما تملكه روسيا من تقنيات عالية وقليلة التكلفة في مجال بناء المحطات النووية ،وأن نيتها الحسنة جاءت في اقتراح تقدم الرئيس الروسي بوتين بمبادرة في هذا المجال لقمة الثمانية الكبار التي انعقدت في سان بطرسبرج اقترح فيها شكلا ديمقراطيا وإنسانيا لتوفير الطاقة النووية لكل دول العالم حسب حاجاتها، وذلك عن طريق إنشاء مستودعات دولية للوقود النووي أشبه ببنك دولي يمنح هذا الوقود لمن يحتاج إليه لتشغيل محطات نووية.وذلك تفاديا لاحتكار دولة أو دول معينة لهذه الطاقة الجديدة وتفاديا لاندلاع نزاعات وحروب عليها مثلما يحدث الآن مع النفط، وتبرعت روسيا من خلال مبادرتها بأن تكون المساهم الأكبر في تمويل هذا البنك الدولي أو المحطات الدولية بالحصة الأكبر من الوقود النووي.لكن المشكلة تكمن في أن الدول الصناعية الكبرى لا تقبل بتسيّد روسيا لهذه السوق الواعدة القادمة. كما وضح للجميع أن روسيا أصبحت على وشك التحكم في السوق العالمية للغاز الطبيعي وأصبحت تتحكم في أكثر من 30٪ من واردات أوروبا من الغاز باعتبارها تملك أكثر من ثلث الاحتياطي والانتاج العالمي من الغاز الطبيعي، لهذا جاءت استجابة روسيا لتوريد الغاز لمصر على رأس الاتفاقيات التى تم توقيعها .
لا يوجد منافس لروسيا في السوق العالمية لبناء المحطات النووية نظرا للعروض الروسية المتميزة بانخفاض الأسعار بشكل كبير وللخبرة الروسية العالية في هذا المجال، بالإضافة لضمانات الصيانة الدائمة التي تقدمها روسيا ضمن تكلفة عقد البناء بخلاف الشركات الغربية التي لا تقدم هذه الضمانات، كما أن روسيا تملك أكبر احتياطي للوقود النووي في العالم والذي يضمن للدول المتعاقدة استمرار تشغيل المحطات بلا توقف. ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية خافت كثيرا من التوجه الجديد لروسيا في هذا المجال، حيث سعت واشنطن خلال التسعينيات إلى توقيع اتفاق مع روسيا لاحتكار شراء اليورانيوم الروسي وبعرض مغر للغاية وكاد الرئيس الروسي السابق يلتسين أن يوافق على العرض الأمريكي لولا المعارضة البرلمانية التي تنبهت لخطورة الصفقة على مستقبل روسيا في السوق النووية القادمة فأوقفتها استنادا لقانون التجارة الخارجية الروسي الذي يمنع احتكار أي جهة أجنبية لأي منتج روسي. علينا الآن ألا نضع حججا واهية تعرقل تنفيذ مشروعنا النووي . فانجازاتنا الكبرى ارتبطت بروسيا ومن ثم علينا أن نفضلها في إقامة المحطة النووية الأولي ثم نشرك الآخرين مثل ألمانيا ففرنسا فالولايات المتحدة في بناء المحطات التالية حتى نضمن نجاح هذا البرنامج وليس العكس حيث إننا فشلنا في المرات الأربع السابقة بسبب الولايات المتحدة ، وأظن أن الفرصة مواتية لأن نختار حسب قواعد اقتصاديات السوق والتي تتزعمها الولايات المتحدة ، فالولايات المتحدة الآن أمام اختبار حقيقي إزاء انتهاج الدول النامية لهذا النهج أو ذاك ، قواعد اقتصاديات السوق تقول أن الأفضل لنا هو إرساء العطاء الأول لبناء المحطات النووية على روسيا لأسباب كثيرة .ومن ثم هناك ضرورة لمشاركة الجانب الروسي في تنفيذ البرنامج النووي المصري ، نظرا لتاريخ العلاقات المصرية الروسية وما أسفر عنها من مشاريع عملاقة ستظل محفورة في قلوب المصريين ، ولعل السد العالي الذي اختير كأعظم عمل هندسي في القرن العشرين خير شاهد على هذا .
والشق الثاني الذي يجعلنا تفضل العرض الروسي هو التقدم الذي أحرزته في تحلية مياه البحر ، حيث قطعت شوطا كبيرا تجاه التوسع في هذا المجال من ناحية تخفيض التكلفة والتقنيات المستخدمة مع بساطة المعدات وتركيبها وصينتها ونقلها من مكان لآخر . وقد تراكمت الخبرات الطويلة لدى مصممى محطات التحلية الضخمة مما يسمح لهم بحل أكثر المسائل تعقيدا مثل الحصول على المياه بدون أملاح من أجل المولدات البخارية وتحلية المياه المتضمنة للأملاح في المحطات الحرارية لتوليد الكهرباء . كما تسمح هذه الخبرات في تصميم أنظمة مغلقة لاستخدام المياه مع التقليل الكبير لاستهلاك الطاقة والمواد الكيميائية وبالتالي التأثير الإيجابي في مجال حماية البيئة .
والشق الثالث في التعاون الاقتصادى هو ما جاء عابرا من خلال التبادل عبر العملتين المصرية والروسية ، وأنا أعتقد أن هذا التوجه بداية الالتحاق بمجموعة البريكس التي تناولناها في مقالات سابقة أيضا منذ إنشاء تلك المجموعة التي تضم كل من روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا « وأشرنا إلى أهمية هذه المجموعة وخاصة بالنسبة لإفريقيا ، فهى ــ شراكة من أجل التنمية، والتكامل، والتصنيع». وهم يسعون إلى تعزيز المصالح الوطنية، ودعم الأجندة الأفريقية، وإعادة تنظيم البنية المالية والسياسية والتجارية على مستوى العالم ــ والواقع أن اقتصاد البلدان الخمسة مجتمعة سوف تصبح عند نقطة ما من هذا العقد بنفس ضخامة اقتصاد الولايات المتحدة، حيث سيبلغ الناتج المحلي الإجمالي الصيني وحده نحو ثلثي نظيره في الولايات المتحدة. وسوف تكون البلدان الخمسة مسئولة عن ما لا يقل عن نصف الناتج المحلي الإجمالي على مستوى العالم، بل وربما ما قد يصل إلى 70٪ منه. وأشرنا إلى إن هدف هذه المجموعة «إعادة تنظيم العالم» بعيداً عن الدول المتقدمة سبباً في تحفيز جهود هذه الدول الخمس الشديد التباين لصياغة كتلة خاصة بها. وجاء تشكل هذه المجموعة ردا على النظام الذي أقرته الولايات المتحدة للانفراد بالعالم. والواقع أن رجل الاقتصاد البلجيكي روبرت تريفين كان قد سلط الضوء على هذه المشكلة في ستينيات القرن الماضي، ثم في وقت أقرب إلى يومنا هذا سلط عليها رجل الاقتصاد الإيطالي الراحل توماسو بادوا شيوبا الضوء من جديد. فقال توماسو بادوا شيوبا: «إن متطلبات استقرار النظام ككل تتعارض مع ملاحقة سياسة اقتصادية ونقدية مصممة وفقاً لمسوغات محلية». وتعمل السياسات النقدية التوسعية في الولايات المتحدة بشكل خاص (وفي كل الدول المتقدمة) على توليد مخاطر مرتفعة للاقتصادات الناشئة. فقد أعلن الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف في ايكاترينبرج: «إن أي نظام عملة عالمي ناجح ليس من الممكن أن يشتمل على أدوات مالية تهيمن عليها عملة واحدة».
وكما تناولنا في الحلقة السابقة الخاصة بالاهتمام العالمي بالبنية الأساسية أو التحتية ، فإن الاتجاه شرقا نحو روسيا يصب في الاستفادة من هذا التوجه وخاصة بعد إنشاء بنك التنمية لمجموعة البريكس الذي سوف تصب أهدافه نحو إفريقيا . فيرى بعض المتفائلين في بنك التنمية لمجموعة البريكس وسيلة لتوجيه الأموال الفائضة لدى الصين ــ فضلاً عن خبراتها وتجاربها ــ إلى مثل هذه الاستثمارات (وخاصة السكك الحديدية)، فضلاً عن تعزيز العلاقات بين البريكس والدول الأفريقية .
وفي مواجهة استحالة الانضمام إلى المؤسسات الأوروبية الأطلنطية والانتفاع بها، فإن روسيا تنجرف بسرعة نحو الانحياز إلى الصين ـ «الشقيقة الصغرى» المحترمة. إن «الخيار الآسيوي» الذي تبنته روسيا اليوم لا يشبه الخيار الأوراسي في الماضي. فإن روسيا سوف تناضل من أجل تأسيس بنية جديدة، معتمدة في ذلك على نفسها إلى حد كبير ـ خاصة وأن روسيا لديها معين لا ينضب من الموارد الطبيعية الروسية يقنع هؤلاء القادة ان البلاد بإمكانها التعامل مع اي حالة طارئة .