IMLebanon

لبنان أمام فرصة اقتصادية شبيهة بالعام 2008

MoneyLeb

أنطوان فرح
رغم ان الأوضاع الاقليمية تسير من سيئ الى اسوأ، ورغم ان الوضع السياسي الداخلي لا يبشّر سوى بمزيد من العقم والجمود، بدليل الاستمرار من دون رأس للدولة، تبدو الاوضاع المالية مقبولة نسبياً الى حد ان مصرفيا كبيراً يبتسم وهو يتحدث عن عمليات الاكتتاب في اصدار اليوروبوند الأخير، ويقول ان «أمر هذا البلد عجيب، ويبدو ان الثقة به في الخارج والداخل لا تزال قائمة».
لا يختلف اثنان على ان الاوضاع الاقتصادية تسير منذ العام 2011 باتجاه انحداري سريع، ولا يختلف اثنان، على ان مؤشرات كل القطاعات الاقتصادية تسجل تراجعا، بنسب مختلفة.

هناك قطاعات تجاوز فيها التراجع نسبة الخمسين في المئة كما هي حال القطاع السياحي، وكل القطاعات الخدماتية المرتبطة به، وهناك قطاعات انتاجية اقل تضررا، وقد وصل التراجع لديها الى 15 في المئة كما هي حال القطاع الصناعي، الذي سجلت صادراته في 2014 اكبر نسبة تراجع وصلت الى حوالي 10 في المئة.

كذلك سجل القطاع العقاري في السنتين الماضيتين تراجعا كبيرا، ولو ان نسبة التراجع تختلف بين الوحدات السكنية الراقية والتي تشهد ما يشبه الجمود، في حين ان الوحدات السكنية المتوسطة والشعبية لا تزال مقبولة بفضل قروض الاسكان المدعومة.

في مقابل هذه المؤشرات السلبية، حافظ دخل الفرد على مستويات جيدة، في ظل تراجع اسعار النفط، وما قد يستتبعها من تراجع في الاسعار. ويمكن القول ان اللبناني لم يفقد في السنوات الثلاث الاخيرة الكثير من قدراته الشرائية. كذلك حافظت المصارف على مستويات مقبولة من الارباح، ولو ان نمو الارباح يتراجع من سنة الى اخرى تماشيا مع مؤشرات القطاعات الاقتصادية المتراجعة.

ويمكن القول، ان المصارف نجحت في تحييد نتائجها عن نتائج الاقتصاد عموما، على اعتبار ان التراجع الذي سجلته لا يتناسب مع الانهيار السريع الذي تسجله القطاعات الأخرى. ويعود ذلك في الدرجة الاولى الى الاستثمارات المصرفية في السندات الحكومية، والى الارباح التي تسجلها المصارف الكبرى في الخارج.

في موازاة هذا المشهد، يبرز مشهد اقتصادي آخر يرتبط باستمرار الاقبال على سندات اليوروبوند التي تصدرها الدولة اللبنانية. هذا الاقبال، لا يمكن تفسيره سوى باستمرار الثقة بقدرة الدولة على الايفاء بالتزاماتها.

واذا كان الاكتتاب الداخلي بهذه السندات مفهوما ومبرّرا، على اعتبار ان المصارف ربطت مصيرها منذ سنوات طويلة بمصير الدولة، ولم يعد ممكنا الفصل بسهولة بين المصيرين، فان الاقبال الخارجي على الاكتتاب في هذه السندات هو الذي يعكس ثقة مستغربة تدفع الى طرح علامات استفهام حول خلفيات هذه الثقة.

واللافت اكثر في الاكتتاب الأخير الذي تصدره وزارة المالية، وتديره حاليا ثلاثة مصارف، اثنان محليان وواحد عالمي، ان تاريخ استحقاق هذه السندات يتراوح بين 10 و15 سنة. كما ان الفوائد المطروحة هي أقل من الفوائد التي سجلها آخر اصدار لليوروبوند. ومع ذلك، تم تسجيل اكتتابات خارجية جيدة نسبيا، سوف تظهر بوضوح لدى الاعلان عن نتائج الاكتتاب في الايام القليلة المقبلة.

في تفسير هذه الثقة، وخارج اطار الاكتتابات الداخلية التي تعكس وجود احتياطي مالي لدى المصارف المحلية، واغراءات قدمها مصرف لبنان، وواقع ارتباط مصير المصارف بالدولة، وتقلّص فرص التوظيف بعدما وصلت القروض الى القطاع الخاص الى مستوى الاشباع، يبرز الاقبال الخارجي وكأنه ترجمة الزامية لاتجاهات الاسواق العالمية.

وقد تحول موضوع الفوائد السلبية الى بداية عصر جديد في مفاهيم الاستثمارات المالية. هذا يعني بوضوح ان سبل الاستثمارات المجدية في الاسواق المالية الخارجية صارت ضيقة جدا.

وهناك من يعتقد ان ظاهرة الفوائد السلبية، سوف تتحول الى حجارة دومينو، وان عدوى هذا الاتجاه سوف يعمّ معظم الدول الاوروبية، في ظل استمرار الانكماش في الاسواق (Deflation).

وهنا لا بد من الاشارة الى اموال اللبنانيين في الخارج قبل التطرّق الى المستثمرين الاجانب. اذ ان شراء سندات اليوروبوند في الخارج قد يكون مرتبطا بجزء كبير منه باستثمارات لبنانية موجودة في الاساس في الخارج، خصوصا في اوروبا.

هذه الاموال التي تبحث عن الايرادات لن تجدها بعد اليوم بسهولة في الاسواق الخارجية. وهذا يعني ان البلد قد يكون امام فرصة جديدة لجذب المزيد من الرساميل المهجّرة. وهي رساميل كبيرة تكفي إعادة نسبة صغيرة منها الى السوق المحلي لاحداث طفرة مالية.

ولو كانت الاوضاع الداخلية السياسية افضل مما هي اليوم، لكان في الامكان الاعتقاد ان قسماً لا بأس به من هذه الاموال جاهز لدخول السوق اللبنانية، والافادة من اسعار الفوائد، التي لا تزال مرتفعة جدا قياسا بموجة الفوائد السلبية التي تعمّ العالم.

لكن عودة بعض هذه الرساميل لا يمكن أن يكون ايجابيا من دون تحضير الوضع الداخلي لاستيعاب هذه الاموال. واذا كان التوافق على رئيس للجمهورية غير ممكنٍ لحسابات داخلية وخارجية، المطلوب، على الأقل، من الطبقة السياسية أن تتحرّك في اتجاه اقرار القوانين التي لا علاقة لها بالاوضاع الاقليمية، والتي تستطيع ان تساهم في تكبير السوق المحلي، وفي استحداث فرص لاستثمار الأموال المكدسة، وفي طليعتها قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

لبنان بقدراته المتواضعة يمتلك اليوم فرصة شبيهة بالفرصة التي سنحت في اعقاب الأزمة المالية العالمية في 2008، واذا أحسن الافادة منها، يستطيع ان يحصّن اقتصاده اكثر، وأن تصبح الثقة بمستقبله في موقعها الصحيح.