Site icon IMLebanon

عندما تكبر المصارف تكبر أعباؤها !

BankMoneyMarkets
محمد كركوتي
لنبتعد قليلا عن الفضيحة الجديدة لمصرف “إتش إس بي سي” البريطاني الضخم (ثاني أكبر مصارف العالم)، ولنترك جانبا فضيحة إيقاف الفاتيكان تحقيقا إيطاليا مع بنك الفاتيكان نفسه، بتهم أقلها وجود آلاف الحسابات المصرفية المشينة وأيضا، لنتجاهل ما قاله يوما الكاتب والشاعر الألماني الراحل برتولت بريخت “أسهل عليك أن تسطو على مصرف، من أن تلقي القبض على مديره” باتت وجود المصارف بحجمها الهائل، مصدرا دائما للأرق لدى المسؤولين في البلدان الغربية على وجه التحديد فالفرحة التي قد تظهر من نمو المصرف، ليست سوى غبطة سطحية، لمؤسسات مالية مليئة بالجحور والكهوف والقنوات المظلمة، ولا بأس من خزان تحت الأرض، أو في أشباه دول لن تراها على خريطة ذات حجم طبيعي لقد كان وزير المالية البريطاني جورج أوزبورن صادقا جدا، حين قال “المشكلة ليست في أن هذا المصرف أو ذاك كبير بما يكفل له عدم الانهيار، بل هي في أنه كبير بما يستحيل إنقاذه”.
حان وقت تفكيك المصارف، بإعادة هيكلتها عن طريق تقسيمها، بما يوفر على السلطات كثيرا من التكاليف والخسائر، والأهم الكثير من الفضائح التي باتت الخبر المستمر على الساحة المالية العالمية فما أن تكتمل عناصر فضيحة لمصرف ما، حتى تظهر أخرى تخص آخر والجرائم المالية والاجتماعية والأخلاقية التي ترتكبها المصارف الكبيرة، لا يمكن أن تكون صغيرة كل جريمة تكون بحجم مرتكبها هل يمكن أن يتهم (مثلا) زعيم العصابات الشهير آل كابون بسرقة أصبعي شوكولاته، وعلبة سجائر؟ الأمر نفسه مع المؤسسات المالية الكبرى، التي أثبتت الوثائق الرسمية الغربية، أن بعضها تمكن من الإفلات من براثن الأزمة الاقتصادية العالمية، ليس بحسن سياسته المالية والاستثمارية، بل بالأموال القذرة التي كانت تعج بها خزائنها.
هذه نقطة أساسية أما النقطة الأخرى المحورية، فإنها تلك المتعلقة بالمشكلات التي قد تواجه المصارف الكبرى، لاسيما عندما تقع بالفعل أزمات كبرى، وتصبح معاييرها سائدة على الساحة لأجل ما، بصرف النظر عن مدته ومن هنا، فإن تفكيك المصارف لم يعد خيارا موجودا في أدراج الحكومات، ولا احتمالا واردا بل ضرورة حتمية، خصوصا، بعد أن استهلكت هذه المصارف أموالا هائلة ليس لاستثمارها وطرح منتجات مالية بها، وإنما لإنقاذها من الانهيار لقد كبرت هذه المصارف، إلى درجة أصبحت معها تمثل جزءا من الهيبة الاقتصادية للبلاد برمتها ولأنها كذلك، كان على الحكومات التضحية بكل شيء من أجل إنقاذها من الأموال العامة نقول العامة، نعم على الرغم من أن هذه الأخيرة نالت حظها الرهيب من أفعال المصارف نفسها.
المشكلة الأخرى، أن المعايير واللوائح التي وضعتها الحكومات بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية، أوضحت مزيدا من الثغرات ضمن هيكلية المصارف المشار إليها، بما في ذلك عدم قدرتها على تحقيق الحد الأدنى من الهامش الائتماني المطلوب فلا عجب، أن ظهرت مصارف رنانة بأسمائها لا تستطيع الإيفاء بالمتطلبات الجديدة، وعندما أخضع بعضها في أوروبا أخيرا لهذه المعايير، فشل عدد كبير منها لم تنفع الأنظمة الضريبة التي فرضت على المصارف في تحقيق الأهداف التي وضعتها الحكومات المختلفة كما أن الإجراءات الأخيرة التي اتخذت والهادفة لتخفيف الغطاء حول السرية المصرفية، لم تدفع بالاتجاه المأمول ماذا فعلت بعض المصارف؟ قامت باللجوء إلى بلدان تعتمد السرية في كياناتها ومصارفها فعلا فكان من المفارقات، أن هربت مصارف سويسرية (نعم سويسرية) أموالا إلى هذه البلدان
جربت الحكومات (خصوصا في العالم الغربي) كل شيء تقريبا للسيطرة على تداعيات محتملة للمصارف ولم تقدم بعد إلى الحل النهائي الذي يبدو الأنسب، وهو تفكيك المصارف لتوزيع المخاطر، ولتخفيف أعباء الإنقاذ إذا ما استحق هذا المصرف أو ذاك، الإنقاذ فعلا والتفكيك السليم، لا ينال من هيبة الاقتصاد الوطني على الإطلاق، بل على العكس، سوف يوفر ضمانات للاقتصادات كلها فبدلا من أن تضخ أموالا هائلة في زمن الكساد في مصرف، يمكن ضخ بعض المال فيه، الأمر الذي يدعم استراتيجية الإصلاح الشاملة في البلاد هذا هو الحل الذي لا يزال المسؤولون مترددين في الإقدام عليه فعلى سبيل المثال، لم تلتزم المصارف في عزل عملياتها المصرفية التجارية العادية، عن الخدمات المصرفية الاستثمارية الأكثر خطورة والسبب ليس أقل من الجشع في أموال لا تملكها في الواقع.
أثبتت التجارب السابقة على مدى عقود، أن “إدمان” المصارف على المخاطر لا يقل عن زخم إدمان مقامر الفارق بين الطرفين إن المصارف تقامر بأموال غيرها، بينما المقامر العادي يلعب بأمواله أساسا لا شك في أن بدء عملية التفكيك لن تكون سهلة، وستلقى مقاومة من إدارات المصارف بحجج كثيرة، إلا أن الشيء الحتمي يفرض أحكامه، خصوصا في ظل اضطراب اقتصادي عالمي، لم يحدث في التاريخ الحديث أو كما قال يوما “الملهم” ألان جرينسبان رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق “لا يحدث إلا مرة كل مائة عام”.