بروفسور غريتا صعب
يبدو مزاج مؤسسات التصنيف العالمية متقلبا وغير ثابت، وأقل ما يقال فيه أنه يفتقد الى معايير واضحة يمكن من خلالها الركون الى قرارات هذه المؤسسات. وقد يكون تصنيف أوروبا خلال السنة المنصرمة خير دليل على ذلك، اذ انه وبعد سنوات من تراجع معدل التصنيف، بدأت شركات التصنيف العالمية الكبرى، موديز، ستاندارد اندبورز وفيتش منذ مطلع هذا العام تحسين تصنيفاتها للدول، بلا أي دليل أو أي اشارة واضحة على احتمالات ان تفي تلك البلدان بتعهداتها وتسدّد ديونها السيادية.
اذا كانت المؤشرات الايجابية تشكّل دليلا على أي تغير في مزاج مؤسسات التصنيف، تنبغي الاشارة الى ان المؤشرات السلبية في ثمانية دول على الأقل من منطقة اليورو ما زالت قائمة، ومنها استمرار ارتفاع مستويات البطالة وزيادة معدل انخفاض الأسعار في القارة، أضف إلى ذلك المستويات الحالية من الدين العام والذي يقدّر ما بين 100 و140 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي.
ولا يمكن تقدير الأمور الاقتصادية اذا كانت الاوضاع السياسية غير واضحة، كذلك الارادة السياسية في العديد من دول المنطقة، والتي تتجه نحو رفض خطة التقشّف وتطور الأحداث في اوكرانيا بالاضافة إلى العقوبات الاقتصادية على روسيا.
باختصار، يبدو ان مؤسسات التصنيف الثلاث الكبرى لم تتعلم الكثير من تجاربها السابقة، وبدلا من تقييم المخاطر بشكل جدي فإنها تتبع حسها. وحاولت المؤسسات، وبشكل دوري، تغيير تصنيف هذه الدول بما يسمح بطرح السؤال، اذا كانت هناك أي فائدة في توفير ما يلزم للجو الاقتصادي والاستثماري ليس فقط في اوروبا انما في العالم أجمع. والسؤال الذي يطرح نفسه أيضا، كيف تبني مؤسسات التصنيف هذه أحكامها؟
على سبيل المثال لا الحصر ستاندرد اندبورز تعلن ان لجنة ما بين خمسة وثمانية أشخاص تقرر عملية التصنيف هذه، وبينما S&P تقدم قائمة طويلة من المؤشرات التي يمكن استخدامها بما في ذلك «الاقتصادية والتنظيمية والسياسية والجيوبوليتكية، نرى ان هذه الأمور وفي معظم الأحيان أتت معاكسة للتصنيف بما يعني عدم التركيز على الظروف والتأثيرات الاقتصادية.
لذلك، ومنذ أزمة الائتمان التي بدأت في العام 2007، أصبحت هذه الوكالات تتعرّض لانتقادات شديدة. وللعلم، لا ترتاح أميركا ومعها اوروبا لأداء مؤسسات التصنيف هذه، سيما ان المؤسسات أساءت التقدير وارتكبت اخطاء جمة. هذه الاخطاء ساهمت في تعقيدات الأزمة المالية العالمية في العام 2008.
وأصبح هذا التقدير عرضة للانتقادات وضرب بها عرض الحائط. لذلك نرى أن مسألة التصنيف وقدرات مؤسسات التصنيف لم تعد واقعية بالفعل، والدول المتقدمة لم تعد تأخذها على محمل الجد بما يعني تراجع قيمتها وقدرتها على تقييم الدول والديون، وتبقى عائقاً فقط أمام الدول النامية والتي تتأثر إلى حد كبير بهذه المؤشرات.
يبقى القول ان هذه العملية ليست جدية ولم تعط بعد الأزمة المالية العالمية أي نتائج حثية، واليونان هي النموذج. كذلك فان لجنة Basel الموكلة الاشراف على سير عمل المصارف تود العمل على تقليل اعتماد الشركات على تقييمات خارجية واجبار المصارف على تحسين تقييم مخاطر القروض .
ويقول المحللون ان هذا الاجراء يمثل خطوة مهمة نحو تقليص حجم تأثير هذه الوكالات في مجال التنظيم المصرفي- وعلى سبيل المثال فإن المصارف في الولايات المتحدة بدأت تخضع لقيود في اعتمادها على وكالات تقدير الجدارة الائتمانية لاسيما بعد الانتقادات التي تعرضت لها إبان الأزمة المالية2007- 2009. كذلك حذر Dodd Frank المصارف من مخاطر الاتكال على مؤسسات التصنيف هذه. كذلك لجنة Basel اشارت إلى ان على بقية العالم التقيد بالمعايير الأميركية.
الى ذلك، سنّ المشرعون من جانبي المحيط الأطلسي العديد من القوانين من أجل تحسين الاشراف على وكالات التصنيف، حتى أنهم وفي بعض الأحيان حظرّوا استخدامها. ووافق الاتحاد الأوروبي على ثلاثة مجموعات من القوانين تتعلق بوكالات التصنيف أحدها D8 والتي تتطلب من المصدَر تعيين وكالتين احداهما تملك أقل من 10 بالمئة من حصة السوق هذا مع العلم ان D8 ولغايته لم يتم رصدها بشكل صحيح كذلك ليست سارية المفعول لغاية الآن.
وقد أشارت البيانات إلى ان ايرادات وهوامش ربح هذه الشركات الثلاث زادت منذ العام 2010 مع أرقام وصلت في العام 2013 إلى مستويات ما قبل الأزمة المالية العالمية.
هذه الأمور كلها تجعل من الصعب الاعتماد على وكالات التصنيف. كذلك من غير المعقول الاخذ بتصنيفاتها علماً انه كما سبق و ذكرنا قد تتعارض معطيات شركات التصنيف هذه مع حالة السوق وتأتي بنتائج مغايرة لما ترصده هذه الشركات.
أما وضعية الدول النامية عموماً والمستدينة خصوصاً ولبنان واحد منها، فإنها تتأثر بشكل كبير بتصنيفات هذه الشركات الثلاث، وأقله نسب فوائد مرتفعة في حال تدني تصنيفها مما يجعلها عرضة لهزات كبيرة مالية وسياسية، وفي مواجهة مؤسسات التمويل العالمية، سيما صندوق النقد الدولي. وليس الأمر بالمستغرب اذ ان تصنيف روسيا مؤخراً لم يأت مغايراً لوضعيتها وعملتها المتدنية انما لم يأخذ بالاعتبار اقتصادها القوي وقدراتها المالية والاقتصادية والسياسية.
وهذه عوامل تدخل ولا شك في عملية التصنيف في حال كان محايداً وغير متأثر بعوامل سياسية خارجية، سيما الأميركية منها. أضف إلى ذلك اعادة تصنيف اليونان مؤخراً من (B) إلى (B-) بسبب ضيق الوقت الذي يمكن من خلاله لليونان ان تعيد هيكلة ديونها وان تضع اجندة عمل. هذا التطبيق جاء نتيجة حتمية لوضع اليونان المتدهور سياسياً واقتصادياً ولامكانية خروجها من منطقة اليورو.
هكذا نرى انه وبالرغم من اخطاء فادحة ونتائج كارثية على الاقتصاد العالمي، ما زالت هذه الشركات مزدهرة وزاد نشاطها في أسواق السندات وكل ما قيل عن اصلاحات داخل هذه الشركات لم يزل حبراً على ورق اذ ان القول اهون من الفعل وجميع محاولات الأوروبيين والأميركيين ان كان مع ESMA او من خلال Dodd-Frank act الذي وضع في أميركا العام 2010 والذي حدد اصلاحات جمة للحد من نشاط وفعالية هذه الشركات ما زال يراوح مكانه.
في الاجمال، يبدو ان وكالات تقدير درجة الجدارة الائتمانية تعطي المستثمرين ما يريدون سماعه علماً انه ومؤخراً فقدت هذه الوكالات ثقة المستثمرين، وسمعتها باتت على المحك.
واذا ما خسرت مؤسسات التصنيف ثقة المستثمرين لا يمكنها بالمطلق ان تكون قادرة على فرض رسوم على التصنيفات، لذلك قد يكون من الأفضل والحال هذه اعادة النظر في عملها سيما وان النظرية الاقتصادية المبسطة تقول ان المستثمر ليس بالغبي، ولا يكتفي بتصنيفات هذه المؤسسات سيما بعد ان ارتكبت خطأ مميتاً في العام 2007-2008 بما يعني انه على الأقل لم يعد دورها فاعلا كالسابق و قد تأتي تصنيفاتها مغايرة لردات فعل السوق.
هكذا نرى ان منطقة اليورو على الأقل في بعض من أجزائها يمكنها التغاضي عن عملية التصنيف هذه ومواجهة أي تغيير في تصنيفها، إلا ان دولا مثل اليونان ولبنان لا يمكنها التغاضي عن أي تغيير في هذا التصنيف، سيما ونحن نعيش في فراغ دستوري عميق قد ينعكس سلباً ليس فقط على التصنيف بل كذلك على النمو الذي يعاني منذ العام 2013 تراجعاً ملحوظاً.