كتب ايلي الحاج
تنطلق مطلع هذا الاسبوع ورش عمل تنظمها الأمانة العامة لقوى 14 آذار على أبواب الذكرى العاشرة لاحتشاد اللبنانيين في ساحة الشهداء والحرية، يومَ ساهم كلُ منهم في تغيير مسار تاريخ لبنان الحديث. أشياء كثيرت تغيرت منذ ذلك اليوم، ذبلت أحلام وتهاوت آمال بالضربات من داخل ومن خارج. لكن 14 آذار الحركة تريد القول إنها لا تزال قيد الحياة تقاوم. إن الجسد ضعيف وأما الروح فقوي.
ورشة العمل الأولى ستشارك فيها عشرات الشخصيات، مفكرين وسياسيين وكُتّاباً وأصحاب رأي وموقف وناشطين، تناقش تقريراً أعدته الأمانة تحت عنوان “ترتيب الذاكرة”، يسرد الأحداث السياسية والأمنية والعسكرية والديبلوماسية سنة تلو سنة منذ 14 شباط 2005. الغاية ليست جلداً إضافياً للذات يُحبط بلا نتيجة ويدعو للإستسلام، ولا استعادة الماضي نوستالجياً كمدمني الأسف والعيش في الماضي، أو التأريخ وهذه مهمة سهلة تتولاها مراكز توثيق وأبحاث، بل استخلاص العبر لاستكشاف إمكان استئناف رحلة الإقلاع نحو زمن لبناني جديد زمن وعدت به 14 آذار ولم تفِ.
لعلّ العبرة الرئيسية من إعادة قراءة ما جرى أن “حزب الله” مدعوماً من إيران والنظام السوري نفذ انقلاباً مضاداً منهجياً لم تكن تتوقعه القوى التي انتصرت ولم تحسن إدارة مرحلة ما بعد الإنتصار، فتحالفت انتخابياً مع هذا الحزب تحالفاً قاضياً على إمكانات فئة واسعة ممن صنعوا الإنتصار، كما على احتمالات فوز حلفاء مسيحيين بفعل ارتداد كان يتوجب التحسب له للجنرال ميشال عون، ولا يزال متمادياً فيه حتى اليوم على حساب أي اعتبار.
بدم غالٍ تحقق انسحاب الجيش السوري وبدمٍ غالٍ وقافلة شهداء تالية ووجع كبير رأت المحكمة الدولية النور وانطلقت. وبكثير من معاناة تكبّدها اللبنانيون جميعاً اجتازوا السنوات العشر محاولين التوفيق بين حبهم للحياة، وحب “حزب الله” للحلول محل النظام السوري في إدارة شؤون وطنهم، والإستئثار بالقرارات الإستراتيجية فيه سلماً وحرباً، وحبّه للسلاح غير الشرعي الذي في حوذته، والمدمّر بمجرد وجوده وسطوته لأساسات الدولة اللبنانية التي حلم بها شعب 14 آذار. سلاح تخطى به حدود لبنان مسقطاً ولا مبالياً بكل التعهدات والمبادئ وحتى فارضاً استثناءه من الحوارات السياسية الدائرة في سبيل تأمين الإستقرار الأمني لا غير، مضيفاً لاحقاً إلى الإستثناء بند مشاركة هذا الحزب في الحرب السورية. الحزب يفرض أجندته و14 آذار تستنكر وتندد وترفض في بيانات وتحاور الحزب. فرق كبير لكن أياً من الجانبين لا يرغب في الحلول محل الآخر.
على الأرجح سيستنتج المشاركون في قراءة ورقة “ترتيب الذاكرة” التمهيدية أن “انتفاضة الإستقلال” (اسمها الأول) صنعت معجزة وأكثر . حوّلت الضعف قوّة هائلة عندما كانت خياراتها واحدة محددة. ليّنت الصخر. عندما تفرقت الحسابات وتعددت واختلفت انتقلت إلى ضفة المتلقي والعاجز حتى عن القيام برد فعل مناسب. في المرحلة الأولى من الإنطلاقة كان الوهم السائد أن “حزب الله” لن يستطيع البقاء طويلاً خارج فيضان بحر الإجماع اللبناني على المناداة بوطن ودولة بدل دويلات الطوائف والمذاهب والأحزاب وأنانياتها القاتلة. بعد عشر سنوات تبيّن بوضوح أن “حزب الله” منيع أمام كل محاولات اللبننة. كل محاولات استرضائه سقطت. حدوده ودولته أوسع بكثير وعاصمته أبعد بما لا يُقاس من المسافة المتداخلة بين الضاحية وبيروت.
سيأسف المشاركون لأن العدوى كانت في الإتجاه المعاكس من الحزب إلى القوى التي ناهضته، فتساقط على الدرب أولاً الجنرال ميشال عون وتياره مفضلاً المكاسب السياسية وغير السياسية على فكرة الوطن، وخرج الزعيم وليد جنبلاط رافعاً سلامة الطائفة فوق أي اعتبار بعدما وجد نفسه وحيداً في مواجهة الآلة العسكرية القاتلة ذات 7 أيار. ثم كرت سلسلة تنازلات من تبقوا ولم ينتبهوا مما استدعى لحظة توقف وتأمل في المشهد وسؤالاً من خارج المصالح السياسة: هل يمكن العودة إلى لحظة البراءة الأولى، الذهاب إلى ولادة ثانية، أم لا؟