Site icon IMLebanon

«خلطة» يسارية أحرجت أوروبا ولم تُخرج اليونان من «اليورو»

GreeceDebt
حيدر الحسيني
«ضربة معلم». هذا ما يمكن أن يوصف به الإنجاز الديبلوماسي عالي الأداء الذي اتّسم به الحراك المكوكي لليسار اليوناني الفائز في انتخابات كاسحة، من خلال القدرة على إحراج الاتحاد الأوروبي، الذي وجد نفسه مضطراً كي يجدّد لأربعة أشهر برنامج المساعدات المالية للبلد المتعثر، الذي تَعِدُ حكومته الجديدة بتغييرات كبرى خلال بضعة أشهر.

الجولة الميدانية والاتصالات المكثفة التي قادها رئيس الوزراء أليكسيس تسيبراس ووزير ماليته يانيس فاروفاكيس، حظيت بدعم شعبي أوروبي واسع النطاق، لكن جهودهما لم تلقَ، في المقابل، سوى الغِلظة والتشدّد من جانب ألمانيا، بزعامة المستشارة أنغيلا ميركل يعاونها وزير ماليتها «القاسي» فولفغانغ شويبله، المعروف لدى تعامله مع أبناء شعبه بـ»قِلّة الرحمة» وبكثرة التحفظ والتدقيق، وهي الصفات «المكروهة» التي طالما كانت سبباً في نجاح إدارته المالية الصارمة. ولكن رغم التشدد الالماني، وافق النواب الالمان بغالبية ساحقة اول من امس على تمديد المساعدات الاوروبية الى اليونان، وذلك بعد ثلاثة أعوام تماما على إعطائه الضوء الأخضر لبرنامج المساعدات في 2012 والذي ينص على منح اليونان 140 مليار دولار.

استثمر الفريق السياسي اليوناني الحالي في عامل قوة أساسي كان يعلم مسبقاً أنه قادر على المراهنة عليه حتى النهاية، وقد نجح فعلاً، ألا وهو أن اليونان عضو في كيان سياسي واقتصادي ونقدي يرفض أعضاؤه الأساسيون، وخاصةً ألمانيا وفرنسا، انفراط عقده انطلاقاً من إخراج اليونان من عضوية منطقة اليورو، لأن إجراءً كهذا قد يفتح الباب مستقبلاً على سيناريوات مشابهة بالنسبة لدول اُخرى، مثل إيطاليا وإسبانيا، ما يُنذر بالتالي ببداية انهيار محتوم لتكتّل عمل أطرافه عشرات السنوات من أجل ولادته.

غير أن الإنجاز اليوناني يتخذ صفة «الموقت»، مع ما يستتبع ذلك من التساؤل حول ما يمكن لأثينا أن تحققه خلال أربعة أشهر، بما يُقنع قادة الاتحاد الأوروبي والمصرف المركزي القاري وصندوق النقد الدولي بصوابية المُضي قُدُماً بدعم حكومة أثينا المُصرّة على إنهاء التقشف، ولو بلهجة أكثر لطفاً من تلك التي سادت موسم الانتخابات الشهر الماضي، فضلاً عن التساؤل حول طبيعة عوامل القوة التي ستضمن نجاحها المحتمل وتعزز الثقة بها داخلياً وخارجياً؟

استحقاقات داهمة

تمديد برنامج المساعدة الأوروبي لا يعني أن ضغوط جبل الدين الهائل قد انتهت. إذ ان منح أثينا بعض الوقت لا يحل مشكلة التمويل. فوزير المالية الذي يقول إن بلاده لن تواجه مشكلة بالنسبة لسيولة الدولة، يقر في الوقت نفسه أنها ستواجه مشكلات من نوع آخر ترتبط بسداد دفعات صندوق النقد والمصرف المركزي الاوروبي في تموز المقبل.

يأتي هذا الضغط أساساً من رزوح اليونان تحت عبء دين يُقدَّر بـ320 مليار يورو، ونسبته مرتفعة جداً تصل إلى 175 في المئة من الناتج المحلي المجمل، ومصدر معظمه الدائنون الدوليون، أي دول «اليورو« من خلال آلية «صندوق الإنقاذ المالي«، يليها صندوق النقد و»المركزي« الأوروبي، الذي اشترى سندات حكومية اعتباراً من عام 2010.

أما الاستحقاق العاجل هذه السنة بالنسبة لوزارة المالية، فيكمن في ضرورة سداد 19 مليار يورو، منها 1,6 مليار يورو لصندوق النقد تستحق الشهر المقبل، تليها استحقاقات سندات كبيرة للمركزي الأوروبي بقيمة 3,5 مليارات يورو في تموز و3,2 مليارات في آب.

وعود في اتجاهين

اختبار كبير وحسّاس جداً سيحكم أداء الحكومة اليونانية خلال الأشهر الأربعة المقبلة. إذ يتعيّن عليها العمل في اتجاهين مختلفين مرضيين قدَر الإمكان لشعبها من جهة، ولترويكا الدائنين من جهة اُخرى. بتعبير آخر، ينبغي لمجلس الوزراء أن يفي بوعوده لناخبين وضعوا ثقتهم بأن الطاقم السياسي الجديد سيضع حداً لأزمتهم الحياتية والمعيشية، على أن يُطبّق في الوقت نفسه تعهدات قدّم بموجبها بعض التنازلات مبدياً التزام الوفاء بها ضمن برنامج واضح وضعه بين يدي الاتحاد الأوروبي لتحصيل موافقته على تجديد برنامج الدعم.

إنها معادلة يبدو صونُها أمراً صعباً للغاية في ضوء وعود أطلقها «الإغريق» الجُدد في اتجاهين مختلفين إلى حد كبير، حيث سيكمن التحدّي الكبير في حفظ التوازن بينهما من دون خلل ستدفع الحكومة ثمنه باهظاً إذا ما أخفقت في مخاطبة شعبها في كفّة وصنّاع القرار الأوروبيين في الكفّة المقابلة.

لناخبيه، وعد حزب «سيريزا» قبل الوصول إلى الحُكم بجملة من الأمور، وأبرزها على الإطلاق العمل على وقف برنامج التقشف الشديد والتحرّر من هيمنة الدائنين الخارجيين، الذين يطلبون تنفيذ إصلاحات مؤلمة مقابل مساعدات بقيمة 240 مليار قدّموها لأثينا منذ 5 أعوام. ومنها أيضاً، ما يبدو أن الحكومة تراجعت عنه، مثل الحد الأدنى للأجور الذي لم تُحدَّد قيمته كما لم يُحدَّد أي موعد لإقراره، على أن تناقش الأمر مع الهيئات الاجتماعية المحلية والمؤسسات الأوروبية والدولية، بعدما كان المبلغ المطروح في سياق «روزنامة 2016» 751 يورواً.

وإضافةً إلى التنازل عن مطلب رفع الحد الأدنى للأجور، قدّمت حكومة اليونان تنازلات واضحة أغضبت شعبها وجزءاً من مجلس الوزراء، لا سيما ما يتعلق باعتزامها وقف الخصخصة وزيادة الرعاية الاجتماعية.

في مقابل هذه التنازلات، التزمت الحكومة الجديدة بتطمين دائنيها إلى أنها لن تنحرف عن الأهداف المالية أو التراجع عن الإصلاحات السابقة ومكافحة التهرب الضريبي وجبه الفساد.

هامش المناورة

لا شك أن الحكومة اليسارية تتكئ على شعبية كبيرة من ناخبين عمّقت سياسات الحكومات السابقة بما تضمنته من تقشف وعمليات صرف جماعي وخفض للرواتب وانحسار لفرص العمل، ما عمق جراحاتهم العائلية والاجتماعية، وزادت من معاناتهم الاقتصادية والإنسانية، في ظاهرة أدّت إلى استفحال البطالة ومفاقمة حالة الركود وشح السيولة.

ولئن كان يبدو من الصعوبة بمكان أن تلتزم الحكومة الحالية بتعهداتها أمام الدائنين من دون المساس بشعبيتها، فهي تعلم أن الاتحاد الأوروبي يدرك أن أعباء مساعدة اليونان على تجاوز أزمتها تكاد لا تُذكر إذا ما قيست بالثمن السياسي والاقتصادي الذي ستدفعه القارة الأوروبية إذا ما انهار التكتل السياسي الجامع لمصالحها والمُعزز للُحمة نسيجها الاجتماعي بمفهومه الواسع، وهذا ما يمكن أن يشكل نوعاً من صمّام أمان يتيح للحكومة هامش مناورة مع المقرضين بعد انتهاء مهلة الأشهر الأربعة، لكن شرط أن تثبت أثينا لمجتمعها والعالم بأنها قد وضعت عملية التغيير المالي والإداري على السكّة الصحيحة حتى لو أخفقت في إحداث «التغيير الكبير» الذي تتحدّث عنه.