IMLebanon

مكرم صادر: هذه هي المتغيّرات لدى المصارف في لبنان والعالم

LebMoneyBank

مكرم صادر (امين عام جمعية المصارف في لبنان)
تشهد الصناعة المصرفية في العالم متغيّرات مهنيّة كثيرة، إضافةً الى متغيّرات أخرى عديدة أيضاً تطرأ في محيط عملها، وذلك على مختلف الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية. والقطاع المصرفي في لبنان – مصرف مركزي و/أو المصارف التجارية – سيكون حكماً معنيّاً بهذه المتغيّرات بل منخرطاً فيها.
ويمكن تلخيص المتغيّرات الرئيسية على صعيد الصناعة المصرفية منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية حتى اليوم، أي في مدى سبع سنوات بأربعة، يأتي في مقدّمها التحوّل شبه الجذري في بنية موجودات ومطلوبات المصارف والمؤسّسات المالية. فقد توسّعت في جانب المطلوبات قاعدة الودائع القصيرة الأجل من 60% إلى 80% من الإجمالي، وضيّقت المصارف في جانب التوظيفات/الموجودات نسب الإقراض من 56% إلى 51% إستناداً إلى دراسة أعدّتها مؤسسة ديلويت إند توش. وباتت سيولتها أفضل من ذي قبل. واقتربت بذلك من بنية المصارف اللبنانية. وتسرَّعتْ وتيرة الدمج المصرفي خصوصاً للوحدات المصرفية الكبيرة من 100 إلى 500 مليار دولار نتيجة الضغوطات المتمثّلة بالرسملة والملاءة والسيولة التي تفرضها السلطات النقدية في العالم، وتفترق مصارفنا عن هذا المنحى إذ تراجعت وتيرة دمج المصارف. فالسلطات تحول دون اندماج المصارف الكبيرة في لبنان فيما تستمرّ في منح رخص جديدة لإنشاء مصارف. وللعلم، فقد ارتفع عدد المصارف العاملة من 64 إلى 70 مصرفاً خلال فترة 2005 – 2015 ! ويصعب فهم المنطق الذي يحكم هذه السياسة!..
واقتربت مصادر مداخيل المصارف في العالم من بنية مداخيل مصارفنا نتيجة تراجع العوائد من الخدمات المصرفية (العمولات) التي نمت، حسب دراسة ديلويت إند توش، بمعدّلٍ وسطي تخطّى 10% خلال العقدين 1984 – 2003 لينخفض هذا المعدّل إلى ما يقارب 2% في فترة 2004 – 2014. والمعروف أن هوامش الفوائد ما زالت تشكّل أكثر من 80% من الناتج المصرفي في السوق المصرفية اللبنانية. وقد بيّنت دراسة ديلويت إند توش المشار إليها تراجعاً في دور المصارف في أنظمة التحويل والمدفوعات، بما فيها إدارة بطاقات الدفع، لصالح مؤسّسات غير مصرفية بما فيها شركات التسويق والتوزيع. لكنَّ الصناعة المصرفية في لبنان لم تعرف بعدُ هذا التحوّل الذي قد يكون آتياً، لذا يجدر التحوّط له.
ثمّة تطوران آخران مهمّان حدثا على صعيد الصناعة المصرفية في العالم. يكمن الأول في نمو وظائف التحقّق ” Compliance ” وكذلك حجم الجرائم السيبيرية (Cyber Crime ). وتتقاطع الصناعة المصرفية اللبنانية مع هذين التطورين بشكلٍ واضحٍ لا سيّما في مجال التحقّق حيث يجهد القطاع المصرفي في الحفاظ على سمعته وعلى علاقات المراسلة بفعل تنامي عدد الأحزاب والمؤسّسات والأفراد المدرجة على لوائح الإرهاب في الولايات المتحدة وأوروبا والمملكة المتحدة والأمم المتحدة. وتلتزم المصارف بقواعد العمل الدولية وباللوائح الصادرة حفاظاً على سلامة مدخرات اللبنانيّين وحرصاً على استمرار عمل أنظمة الدفع والتحويل مع العالم. ونأمل أن يبتّ المجلس النيابي قريباً بثلاثة مشاريع قوانين محالة إليه من قبل الحكومة منذ سنوات: تعديلات على قانون مكافحة تبييض الأموال، تنظيم حركة النقد عبر الحدود وأخيراً تبادل المعلومات الضريبيّة. ومن شأن هذه التشريعات أن تحصّن العمل المصرفي متى أُقِرَّتْ.
على صعيد السياسة النقدية في لبنان، فقد كانت ولا تزال المحدِّد الأقوى أثراً للنشاط المصرفي على امتداد العقدين الماضيَيْن. ووفّرت هذه السياسة من خلال تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي استقراراً نقدياً طوال 22 عاماً يكاد يكون فريداً في العالم. وتشهد على ذلك تقلّبات أسعار صرف اليورو والين الياباني وعملات الصين والبرازيل وروسيا بالإضافة إلى عدد غير قليل من عملات الدول الناشئة الأخرى. وهذه الفرادة في النموذج اللبناني لها إيجابيّاتها وطبعاً سلبيّاتها.
وتتلخّص إيجابيّاتها بثلاث هي: الحفاظ أولاً وما أمكن على القوة الشرائية لذوي المداخيل بالليرة اللبنانية، أي لمعظم اللبنانيّين العاملين بأجر؛ وثانيها سمحت سياسة الإستقرار النقدي للقطاع المصرفي بالتطور في نشاطه تعبئةً للودائع وتمويلاً للأُسَر والمؤسّسات، وفي موارده البشرية وكوادره ورساميله، وكذلك في نوعية عمليّاته والتقنيّات من خلال نظام مدفوعات موثوق وفعّال ذي كلفة متدنّية في الداخل ومع العالم، ومن المهم الإشارة إلى التوجّه العالمي القوي لتقوية رساميل المصارف والى وضرورة أن تستمرّ مصارفنا في هذا الجهد. يُضاف إليه تعزيز الجهد لتكوين المزيد من المؤونات عندما تدخل القواعد الدولية المعروفة بالـ IFRS حيّز التنفيذ عام 2017. وقد سمحت السياسة النقدية أخيراً بتطوير قطاع المؤسّسات. فالمؤسّسات تتوسّع بشكلٍ أفضل بحجمها ونوعية نشاطها ومستوى أدائها، إذا توفَّر لها استقرار نقدي تستند إليه لتحديد الأسعار وكلفة الإنتاج. وللتذكير، فقد ساعد الإستقرار النقدي في توفير التمويل المصرفي للإقتصاد الخاص بما يفوق 45 مليار دولار دون احتساب 5,5 مليارات دولار للقطاع الخاص غير المقيم كما في نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2014.
في مقابل هذه الإيجابيات، يرتبط أو ينتج عن سياسة الإستقرار النقدي المستمرة لأكثر من عشرين عاماً متتالياً سلبيّات يمكن اختصارها بأربعٍ: إنها أولاً ترتّب أكلافاً إضافية يتحمّلها الإقتصاد بكل مكوّناته من خلال آلية الفوائد. فالفوائد تشكّل الأداة الرئيسية للسياسة النقدية متى ثَبُتَ سعر الصرف. وفعلاً، تمَّ تمويل الإقتصاد والدولة بمعدّلات مدينة مرتفعة فاقت 10% طيلة فترة 1993 – 2014 بينما سجَّل النمو الاقتصادي فعلياً معدّلاً بلغ في متوسط الفترة 4,5%. ونذكِّر بأن حجم التمويل للقطاعين العام والخاص قد ارتفع من مستوى 6 مليارات دولار عام 1993 إلى ما يقارب 88 ملياراً في نهاية شهر تشرين الثاني 2014. فيكون تسليف الإقتصاد من المصارف تضاعف 15 مرةً في الفترة المذكورة. ولم يترافق هذا التمويل المفرط للإقتصاد والدولة مع معدّلات تضخم موازية إذ بلغت هذه المعدلات في متوسط الفترة 5% تقريباً. ويعود ذلك إلى سياسة التعقيم المتّبعة من قبل السلطات النقدية. وانعكست ثانياً السياسة النقدية على المؤسّسات التي توجّهت بكثافة الى التمويل عبر الإقتراض من المصارف دون اللجؤ إلى تقوية قاعدة رساميلها. ويكتشف من يُدقّق في ميزانيات الشركات أن نسـب الدين إلى الأموال الخاصة Debt / Equity Ratio مرتفعة جداً قياساً على ما هو قائم عالمياً. فالشركات تستسهل المديونية بدل الرسملة التي تفرض ضرورة إدراجها في البورصة وتالياً الشفافيّة في حساباتها ونتائجها. والمصارف تستسهل الإقراض بضمانة أصحاب المؤسّسات وليس إستناداً فقط لأدائها وربحيّتها. ومن الإنعكاسات السلبية ثالثاً أن السياسة النقدية لم تساهم في تطوير الأسواق المالية في لبنان. ذاك أن تمويل الشركات من خلال الأسواق المالية، أي إصدارات الأسهم وسندات الدين، والإكتتاب بها من الجمهور قد ظلَّ هامشياً. فرسملة البورصة ما زالت أدنى من 10 مليارات دولار فيما الدين العام المموّل من الجمهور يشكِّل نسبة ضئيلة من إجمالي الدين العام، إذ يحمل مصرف لبنان والمصارف وضمان الودائع أكثر من 90% من إجمالي دين الدولة البالغ 100 مليار ل.ل. (66,4 مليار دولار). أما الإنعكاس السلبي الأخير للسياسة النقدية، فنرصده على مستوى النمو الاقتصادي الذي سجَّل خلال فترة 1993 – 2014 معدّل نمو سنوي متوسط قدره 4,7%. ويحتاج النمو الإقتصادي لسياسة فوائد متدنّية تشجّع على الإستثمار الحقيقي في الإقتصاد. وكما أسلفنا، فإن متوسط الفوائد المدينة تخطَّى 10% في الفترة المذكورة، فيما تخطّت الفوائد الدائنة 6%. ويفضِّل أصحاب الأموال إيداعها في المصارف بدل إستثمارها. والناظر إلى السياسات النقدية التي اتّبعها خلال السنوات الماضية بنك الإحتياطي الفدرالي الأميركي والتي يتبعها البنك المركزي الأوروبي حالياً يرى معدّلات فوائد قريبة من الصفر % انتهجتها السلطات النقدية المصرفية لإطلاق النمو الإقتصادي. فالعلاقة بين معدّلات الفوائد ومعدّلات النمو علاقة عضوية في الإتجاه المعاكس.
طبعاً، إن البنك المركزي في لبنان يعي جيداً هذه العلاقة وقد أرسى إجراءات أو هندسات مالية تساعد على نمو الإقتصاد من خلال السماح للمصارف بإستعمال أموال الإحتياطي الإلزامي بالليرة أو من خلال ضخّ سيولة بفوائد متدنّية للمصارف بغية إعادة إقراضها للأُسَر والمؤسّسات. تساهم مثل هذه السياسة في دعم النمو في فترة سجَّل فيها الإقتصاد معدّلات نمو أدنى من 2% خلال السنوات الأربع الماضية (2011 – 2014). ويشير ضعف النمو، رُغم الهندسات المالية، إلى كون السياسة النقدية وحدَها لا تكفي. فهي تُكسب الحكومات بما هي مسؤولة عن السياستين المالية والإقتصادية بعض الوقت. وفي سياق الوضع السياسي القائم، المتمثّل بغياب فاضح لعمل المؤسّسات، مع شغور رئاسة الجمهورية والتعطّل الموازي للمجلس النيابي وفي ظلّ الفعالية المحدودة جداً لحكومةٍ يتمتّع فيها كلُّ وزير بحقّ الفيتو، يصعب رسم وتنفيذ سياساتٍ مؤاتية للنمو تحصِّن مناعة القطاع، بل أكثر من ذلك، يمكن القول إن سهولة التمويل عبر المصارف أقعدت الدولة عن البحث عن سياسات مغايرة تشجّع التمويل وأثنتها عن اتّخاذ سياسات تضبط العجز والمديونية. يُضاف إلى هذا المشهد السياسي القاتم صعود الظلاميّة والأصوليّة مع ارتداداتها السلبيّة على مجمل الأوضاع السياسية والإقتصادية، ناهيك عن الضغوطات الهائلة والمكلفة أيضاً على كل الأصعدة لتدفّقات اللاجئين السوريّين.
كان يمكن للمرء أن يأمل أداءً أفضل للحكومة والمؤسّسات الدستورية الأخرى في مجالاتٍ عدة. بيد أن كل أو معظم المؤسّسات باتت معطّلة إما بفعل إنعكاسات الحرب الدائرة في سورية على لبنان، وإما بفضل المحاصصة المستندة إلى قاعدة الطائفية البغيضة، وإما معطّلة أخيراً بغياب الرأي العام الفاعل والمجتمع المدني الذي يمكن تعبئته حول قضايا مجتمعية مفيدة. يبقى أن يقوّي الإنخراط الجدّي للمجتمع المدني في الشأن العام سيادة منطق الدولة وحكم القانون، فيتعزّز بالتالي الإنتماء الوطني والمصلحة الوطنية العليا على حساب الإنتماءات الفئوية والمصالح الخاصة.