حازم أيوب
في كل دول العالم، تكون الأرقام هي الحكم في تقدير حجم ما تعيشه الدولة، أزمة كانت أم انفراجا. تفرض الأرقام نفسها، عندما يدور الكلام عن حجم الناتج المحلي والدخل والدين العام، كما عن حجم الاستهلاك اليومي من هذه المادة او تلك… عن نصيب الفرد من الدخل، كما عن حصته اليومية من الحليب واللحم.
الأرقام حكم عادل دائما. لا تفرق بين كبير وصغير، وهي حادة كالسيف. هكذا كان فعلها عندما جاءت صارخة بحجم الازمة المالية التي عصفت بأسواق العالم وكبرى المؤسسات المالية والمصرفية، قبل سنوات قليلة، وبقيت كذلك وهي تقيس عدد الذين افتقروا وكانوا من ضحايا هذه الأزمة… ويمكن الكلام بتفصيلات كثيرة عن دقة الأرقام، حيث الأرقام لا يمكن أن تكون وجهة نظر، كما الحال في لبنان.
…ذلك أنه وما إن تطرح مشكلة ما في لبنان، مالية أو اقتصادية اواجتماعية، حتى يغرق النقاش بشأنها في وحل السياسة والطائفية، ويجري تسخير الأرقام لتطويعها أداة في خدمة هذا الطرح أو ذاك. وهذا ما يحصل في موضوع ازمة السكن، بشكل او بآخر، علما أن القطاع يبدو مثل صفحة مفتوحة، لجهة وضوح حالته، بين عقار مبني مشغول وآخر شاغر، ومشروع لم يكتمل، ورخص بناء ومساحات… إلخ.
تمثل سوق العقار في لبنان حجماً استثمارياً لا يستهان به، يقدر بما يعادل 12 مليار دولار . وللدلالة على أهميته يمكن مقارنته بحجم الناتج المحلي الإجمالي الذي يقدر بنحو 45 مليار دولار.
ثمة تقديرات تقول بالحاجة إلى 24 ألف شقة جديدة سنويا، لتلبية طلب الشباب اللبناني على السكن. معنى هذا أن السوق فيه عجز عن تلبية الطلب. لكن الواقع ان عدد الشقق الشاغرة يزيد، فالمعادلة مختلة بين العرض والطلب بشكل شاذ عن المألوف، لكن بسيط جدا: الشقق المبنية لا تتوافق مع قدرات المحتاجين إلى السكن. وما يزيد في اختلال هذه المعادلة واقع أن الأسعار ما زالت ترتفع، منذ الطفرة الكبيرة قبل أقل من عشر سنوات.
وإذ يصعب على كثيرين من ذوي الدخل المحدود تملك شقة جديدة في بيروت والضواحي، تتحول هذه الصعوبة إلى شبه استحالة على الشباب الداخلين حديثا إلى سوق العمل، والذين يفترض طبيعيا أن تكون خطوتهم التالية تأسيس عائلة.
المخارج شبه المقفلة
ثمة مخارج عدة يبدو ظاهرا أنها بمتناول هذه الشريحة من اللبنانيين متوسطي الحال، أو الشباب الراغبين في تملك شقة، تتمثل في ما تؤمنه المؤسسة العامة للإسكان من قروض ميسرة، وما تسمح به المصارف التجارية من تسهيلات على القروض، مدفوعة بتشجيع من البنك المركزي.
غني عن القول إن نسبة كبيرة من الشباب لا يمكنها الوفاء بمتطلبات القرض المصرفي، علما أن المصارف تستطيع أن تزيد من جرعة التسهيلات، في وقت تتمتع فيه قروضها السكنية بعامل أمان لا مثيل له في العالم، يتمثل بضمانات متداخلة تحمي القرض السكني، وتضمن استرداد قيمته في حالة التعسر، إذ توفر للمصارف الدائنة هامشاً مريحاً لتسييل العقار.
وإذ تصبح قروض المصارف صعبة المنال بالنسبة للشباب، تحدد المؤسسة العامة للإسكان سقف القرض بـ180 ألف دولار، وهو رقم لم يعد يتوافق مع الأسعار الرائجة في الضواحي القريبة لبيروت، ناهيك عن أنه الحد الأقصى الذي ليس باستطاعة الغالبية العظمى من الشباب الوفاء بشروط الحصول عليه.
فالاقتراض لمدة 20 سنة للحصول على شقة سكنية متوسطة تبلغ مساحتها 130 متراً وقيمتها 150 ألف دولار يفرض على المقترض أن يؤمن 30 ألف دولار من قيمتها في حالة مصرف الإسكان وأن يصل راتبه الشهري إلى 3.949 ملايين ليرة، وإذا كانت مساحة الشقة 115 متراً فإن راتب المقترض الشهري يجب أن يصل إلى 3.161 ملايين ليرة وعليه أن يدفع مبلغاً يساوي 24 ألف دولار من قيمة المسكن.
إلى ما تقدم، تصل قيمة الفوائد الإجمالية، التي يدفعها المقترض للمؤسسة العامة ، على قرض بقيمة 100 مليون ليرة ولمدة 30 سنة، إلى 71 مليون ليرة، أي 71 في المئة من قيمة القرض، وهذه الكلفة تعتبر عالية لذوي الدخل المحدود والأجور المتدنية، والوضع نفسه ينطبق على المؤسسات المصرفية الأخرى، ما يعني أن المؤسسة ليست حلا حقيقيا.
المحرك الأساسي للسوق
يمكن القول إن القروض المصرفية لن تحل أزمة السكن، طالما المشكلة الحقيقية تبقى في تدني مستوى أجور أكثرية اللبنانيين. ومن المؤكد أن مشكلة السكن ستتفاقم مع استمرار ارتفاع أسعار الأراضي والشقق، باعتباره مسارا ثابتا، ولو عرف بعض التوقف. ذلك أن المحرك الأساسي لسوق شراء الشقق السكنية لا يزال متمثلا في اللبنانيين غير المقيمين، القادرين على الشراء، واحيانا كثيرة “كاش” أو بأقساط قليلة، تغني المالك عن تسويق عقاره بشروط أخرى.
يرى الخبير الاقتصادي كمال حمدان أن “على مصرف لبنان أن يعيد هندسة الدعم المالي المقدّم لشراء العقارات السكنية، فلماذا تدعم الدولة من يشتري شقة ثمنها مليونا دولار؟ علماً بأن أي هندسة جديدة للدعم يجب أن تكون لديها وظيفة اجتماعية تسهم في تأمين الشقق لذوي الدخل المحدود، وأن يراعى موضوع ندرة الأراضي في لبنان فيأتي الدعم موجهاً للشقق ذات المساحة الصغيرة نسبياً، أي التي لا تتجاوز 80 متراً مربعاً”.
لكن حمدان يلفت إلى أن الطلب الوافد على السوق، أي الطلب الخارجي، يرفع الأسعار ويؤدّي إلى انفصام بين مستوى الدخل المحلي وأسعار العقارات، ما يؤدي إلى انحسار الطلب من شريحة كبيرة من اللبنانيين، يضاف إلى الاكتظاظ الحالي في مدينة بيروت وضواحيها… وعاجلاً أو آجلاً ستتحول هذه الظاهرة إلى انفجار اجتماعي.
حمدان يصف التركيبة في القطاع العقاري بكون العناصر الرئيسية في القطاع من أسعار وزبائن تظهر خللاً متزايداً، ناجماً عن انفصام بين مستوى دخل اللبنانيين وأسعار العقارات، أو قيمة إيجارها. وقد أدى هذا الأمر إلى خلل بنيوي في النسيج الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، سيصبح معظم البيروتيين خارج مدينة بيروت في المستقبل، وستصبح طريق صيدا -بيروت منطقة مدينية، تعيش فيها كتلة بشرية كبيرة. “ولولا الوضع الطائفي والمذهبي لكنّا سنشهد توسّع هذه الظاهرة بوتيرة أكبر”.
ومن أبرز مظاهر الانفصام أن كل المصارف معبّأة لاستهداف غير المقيمين، فما يحصل أنه من أصل كل 10 شقق تباع في مدينة بيروت، 5 منها لغير المقيمين، ما يعمّق المشكلة الاجتماعية التي يمكن أن تجد طريقاً للحلّ باتجاه استعمال السيولة الفائضة في المصارف، عبر تركيز استعمالها في تأمين حلول لـ”المساكين” المقيمين في لبنان، “وهذا هو الانفجار الذي لا يزال كامناً”.
لكن اما من مخرج قبل الوصول إلى هذا الانفجار؟
الأزمة ببساطة…والحل
يتفق معظم خبراء الاقتصاد على تحديد أسباب أزمة السكنن ووصف حلولها. فالخبير غازي وزني يورد ثمانية أسباب بارزة لهذه الزمة كالتالي:
الارتفاع القياسي والعشوائي لأسعار العقارات الذي انعكس مشكلة اجتماعية تطال شريحة كبيرة من اللبنانيين باتت عاجزة عن تأمين مسكن لها.
ضعف سوق الإيجار وارتفاع كلفة المساكن المعروضة.
تزايد الطلب للسكن على العاصمة والمناطق المجاورة لها.
تخصيص معظم الشقق الحديثة البناء للبيع.
غياب القوانين والتشريعات المحفزة للإيجار.
ويتفق الخبراء أيضا على المخارج، ومن أبرزها:
وضع قانون جديد عادل للإيجار يراعي وضع المالك والمستأجر، ويلحظ إنشاء صندوق لمساعدة ذوي الدخل المحدود، بناء مجمعات سكنية حكومية على مشاعات الدولة والبلديات بالتمويل الذاتي أو بمشاركة القطاع الخاص، تطوير البنى التحتية في المناطق لتشجيع السكن خارج العاصمة.
في المنطق الذي يقيس الأمور بحسابات المصلحة العامة، والإمكانات المتاحة، يفترض ان يكون المخرج في توفر العدد الكافي من المساكن المعدة للإيجار، لكن هذا ما لم يحصل في لبنان سابقا. وهو لا يحصل اليوم وقد لا يحصل في القريب المنظور، في غياب رؤية واضحة وفكر اقتصادي اجتماعي يستهدي به التشريع داخل مجلس النواب، لابتكار قانون جديد للإيجارات يعدل ما بين شرائح اللبنانيين المختلفة، ملاكا ومستأجرين قدامى وآخرين يبحثون عن شقة للإيجار.
“كذبة الأول من نيسان”
القانون الأخير الذي صدر في الأول من نيسان عام 2014، سرعان ما تحول إلى ما يشبه “كذبة الأول من نبسان”، وكان مصيره غريبا عجيبا، وقد تداخلت في تحديد هذا المصير مواقف مختلف الأطراف المعنية. ولم يسلم القانون من انكشاف عورات قانونية، ففي حين لم يطعن المجلس الدستوري بدستورية هذا القانون، بل بثلاث مواد منه فقط، أجازت هيئة التشريع والاستشارات أ تطبيق المواد غير المطعون بها على بعض عقود الإيجارات…بل ان القانون “ضرب من بيت أبيه”، عندما انبرى نواب بمشاريع تعديل، كما فعل النائب إيلي أسود مثلا.
وإلى ما تقدم ثمة الصراع الأزلي بين قدامى المستأجرين وملاك شققهم المستأجرة. وهو صراع بات كثيرون يحاذرون الخوض في حيثياته، التي تتمحور في قسم كبير منها حول اعتبارات مذهبية، تتعلق بتوزع ديموغرافية المستأجرين القدامى، بين مناطق “سنية” وأخرى أرثوذكسية”!
سيكون التوصل إلى قانون إيجارات عادل صعبا، لكنه يبقى الحل الأقرب والأكثر عقلانية، طالما الحلول الأخرى يتحول طرحها إلى شيء من الطوباوية، في بلد يمشي “عَ السبحانية”، تنفق أمواله من دون موازنة، وتجبى ضرائبه عشوائيا، ويتحول فيه التخمين سيد الموقف!
يرى الخبراء أن مشروع الإيجار التملكي من أهم المشاريع لحل أزمة السكن، وهو يقوم على مساهمة المؤسسة العامة للإسكان والمصارف والمستثمرين بتأمين 12 ألف وحدة سكنية سنوياً نصف حاجة لبنان إلى مساكن جديدة، على أن تكون مساحة الشقة ما بين 100 و150 متراً، وأن تؤجر لقاء بدل يتراوح ما بين الـ350 و500 دولار شهرياً، وأن تصبح ملكاً للمستأجر بعد فترة زمنية معينة (مبدئياً 30 سنة).
قد يكون الإيجار التملكي حلا…لكن ألا يجب ان يكون هناك قانون ما للإيجارات قبلا؟