حسين عبدالحسين
في تقرير اقتصادي سنوي للبيت الأبيض إلى الكونغرس، خاضت إدارة الرئيس باراك أوباما في نقاش لطالما شغل بال الأميركيين على مدى العقدين الماضيين، تمحور حول أثر التجارة الحرة على الولايات المتحدة، وعلى تنافسيتها وفرص عملها.
وعلى رغم أن غالبية الأميركيين تعتقد بجدوى التجارة الدولية، إلاّ أن تجربة التسعينات التي شهدت انتقال المصانع من أميركا الى دول العالم خصوصاً الصين، دفع كثراً منهم الى إعادة النظر والمطالبة بإعادة حماية جمركية من شأنها ان تغلق السوق الأميركية الضخمة أمام التنافس العالمي، وتمنح صناعاتها سوقاً حصرية وتالياً تحافظ على الوظائف.
ويتزامن النقاش مع محاولة الحكومة الأميركية جاهدة لنيل موافقة المشرعين على المصادقة، من دون نقاش داخل الكونغرس، على اتفاقيتي تجارة حرة، الأولى يجمعها مع 11 دولة من المحيط الهادئ ومعروفة بـ «تي بي بي»، والثانية مع الاتحاد الأوروبي وتحمل اسم «الشراكة عبر الأطلسي».
وجاء في التقرير الى الكونغرس، أن التجارة مع الصين أدت الى «حدث زلزالي في العقود الثلاثة الماضية في الاقتصاد العالمي» تمثل ببروز الصين. ولفت إلى أن بكين «كانت حتى عام 1979، مغلقة امام الاقتصاد العالمي، لكن بعد الانقلاب في سياستها نجحت على مدى العقدين الماضيين بدمج أكثر من 730 مليون عامل صيني في قوة العمل العالمية». ورأى أن «منافسة الواردات الصينية للصناعة الأميركية المحلية يمكن أن تفسر 44 في المئة من الانخفاض الإجمالي في التوظيف في التصنيع المحلي خلال الفترة ذاتها». لكن حرية التجارة بين البلدين ساهمت، «في إيجاد نحو 10 في المئة من وظائف التصنيع المحلي في أميركا بين عامي 1999 و2011».
واعتبر التقرير أن احدى إيجابيات تحرير التجارة بين البلدين، تكمن في جعل الاقتصاد الأميركي أكثر تنافسية، فترحل الصناعات ذات الكلفة الأعلى في أميركا إلى الخارج، وتعود البضائع بأسعار منخفضة. وفي الوقت ذاته، يعيد الاقتصاد الأميركي ترتيب نفسه بتركيز موارده على الصناعات التي يمكن له التفوّق فيها على الدول الأخرى.
وعرض التقرير موضوعاً شديد الحساسية وهو ميزان التجارة الذي يسجل أرقاماً سلبية وفي شكل متواصل منذ العام 1976، مشيراً إلى أن «الدول المشاركة في التجارة الدولية الحرة نادراً ما يكون ميزانها التجاري متوازناً». وبدلاً من ذلك «عندما تتجاوز صادرات بلد ما وارداته، تحقق فائضاً وتقرضه للدول ذات الميزان السلبي، والعكس صحيح».
ربما يكون هذا العجز التجاري الأميركي في بعض الأحيان، عبئاً على النمو الاقتصادي ولفرص العمل، ما يستدعي خفضه من طريق تقييد التجارة بفرض رسوم جمركية. والتبرير هنا واضح، إذ أن «الطلب على الواردات يعني وجود ارتفاع في الطلب المحلي، ويُفترض في حال إقفال الحدود توليد مزيد من الإنتاج من قبل الشركات الأميركية، ما يعني إيجاد مزيد من فرص العمل لدعم هذا الإنتاج». لكن الحقيقة، بحسب التقرير، هي «أكثر تعقيداً بكثير».
وغالباً ما تترافق العوامل التي تؤدي إلى ارتفاع الواردات مع ازدياد الطلب على السلع المحلية، ما يعني ان خفض الواردات يعني تدني الطلب المرافق لها داخلياً، ما يفضي الى تقليص الوظائف المحلية بدلاً من زيادتها.
وإلى ذلك، أكد التقرير «إمكان التدابير الحكومية الحد من واردات تكون لها آثار في أماكن أخرى من الاقتصاد، على سبيل المثال ربما تؤدي الحماية الجمركية إلى جعل الواردات أكثر كلفة، ويترافق ذلك مع فائض في ميزان المدفوعات، ما يفضي إلى ارتفاع الدولار في مقابل العملات الأجنبية، ويتسبب بانخفاض في سعر الواردات وزيادة في سعر الصادرات، ما يحد من التنافسية الأميركية حول العالم، وقد يعيد الميزان التجاري الأميركي الى عجزه». طريقة أخرى للنظر الى المغالطة القائلة بضرورة إعادة الحمايات، بحسب البيت الأبيض، هو الإدراك بأن العجز التجاري الذي يتطلب التمويل من مقرضين أجانب، يعني أيضاً أن الادخار الأميركي غير كاف لتمويل الاستثمار المحلي. في حين أن الفائض التجاري يعني أن الادخار لدينا أكثر من اللازم». ومع الزيادة في الادخار المحلي، يجري إقراض الأموال للأجانب لتمويل عجزهم التجاري بدورهم. هذا يعني ان تحسن الميزان التجاري يتطلب مزيجاً من زيادة في الادخار أو انخفاض في الاستثمارات، وكلتا الحالتين لا تؤديان الى إنتاج اقتصادي أكبر أو نمو في الوظائف.
لذا، اعتبر التقرير أن «العلاقة بين الميزان التجاري الأميركي والنمو معكوسة، إذ كلما كبر العجز ازداد النمو والعكس صحيح». وهذا نمط تمكن ملاحظته في معظم الاقتصادات الصناعية. ويستحيل على السياسات الحكومية التأثير في الواردات من دون ان تنعكس على مؤشرات اقتصادية أخرى في شكل لا يساعد الاقتصاد عموماً، «وقد تؤدي فعلياً إلى الحاق الأذى» بالاقتصاد الأميركي.
وخلص التقرير الى «أن العلاقة بين الميزان التجاري والنمو تعتمد على الظروف، ويمكن أن تختلف وفق العوامل التي قد تتسبب بتغيرات في الميزان التجاري»، وأن «فهم تلك العوامل أمر ضروري، لكن قبل أن نقرر ما إذا كان تغيير ميزان تجارة من العجز إلى الفائض أمراً مرغوباً فيه، علينا البحث في تداعيات ذلك وما قد يتطلبه من تغير في سياسات أخرى».