.. وتراجع التضخم مخيف أيضا ! قد يتبادر للذهن أن انخفاض الأسعار شيء يستحق الاحتفاء به , ولكن النموذج الحالي لانخفاض التضخم لاسيما في أوروبا هو من النوع الخبيث. وقد حذر مسئولون مرارا» وتكرارا» من انخفاض معدل التضخم إلى «مستويات متدنية للغاية» في منطقة اليورو التي تضم 19 دولة من دول الاتحاد الأوروبي والتي مازالت تعاني بطء التعافي الاقتصادي.
حذر تقرير لمجلة الايكونومست من انخفاض معدلات التضخم (أو تحولها بالسالب) في أنحاء العالم علي نحو أخطر مما يبدو عليه الأمر. وأشار إلي انه مقارنة بين أسعار زمان واليوم تكشف عن مفاجآت وعلي سبيل المثال , في عام 1950 كانت مكالمة التليفون تكلف المتصل 3،70 دولار أو 36.35 دولار بأسعار اليوم وذلك لإجراء مكالمة لمدة خمس دقائق بين نيويورك وسان فرانسيسكو.اليوم المكالمات – حتى الدولية – لم تعد تكلف شيئا .
بل إن ظهور ما يعرف بـ « اقتصاد المشاركة « يدفع الأسعار للانخفاض , بدءا» من ركوب سيارة أجرة إلي استئجار غرفة للمبيت. وفي الآونة الأخيرة جاء انخفاض أسعار الموارد الطبيعية – وخاصة النفط- ليعزز من القوة الشرائية للمستهلكين في دول تمتد من الولايات المتحدة إلى الهند .
ومن جهته يؤكد مارك كارني، محافظ بنك إنجلترا، أن انخفاض أسعار الطاقة أمر «جيد بشكل لا لبس فيه» بالنسبة للاقتصاد البريطاني. وهو ليس مخطئا ولكن يبدو أن العالم لا يدرك خطورة الانكماش.
وقد واصلت أسعار المستهلكين في منطقة اليورو انخفاضها خلال الشهر الماضي تأثرا بالهبوط الحاد في أسعار الطاقة لتسجل معدلات التضخم في هذه المنطقة أقوى تراجع لها منذ ما يقرب من خمسة أعوام ونصف العام.
وبحسب مكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات) في لوكسمبورج فإن معدلات التضخم السنوي في منطقة اليورو سجلت في يناير الماضي انخفاضا بنسبة 6ر0٪ وبنسبة40٪ مقارنة بديسمبر الماضي. والمشكلة هي أن انخفاض الأسعار جاء في أماكن كثيرة في وقت واحد. والضغوط الانكماشية تتجاوز الغذاء والطاقة .وقد شهدت كل من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا انخفاضات واضحة في الأسعار لمدة اثني عشر شهرا».أما في اليونان فالتراجع كان لمدة 23 شهرا.
ويشار إلى أن هذا التراجع هو الأقوى منذ يوليو 2009 عندما انخفضت معدلات التضخم آنذاك تأثرا بالأزمة الاقتصادية.
من جانبها رأت المفوضية الأوروبية في تقرير لها أن انهيار أسعار النفط في العام الجاري هو أمر جيد بالنسبة للتعافي الاقتصادي لمنطقة العملة الأوروبية الموحدة.
كما تنتشر معدلات التضخم المنخفضة للغاية علي نطاق واسع.ويقدر بأقل من 1٪ في أمريكا وبريطانيا والصين .وهو ما قد يبدو هبوطا»محمودا» أكثر منه عزوفا عن الشراء. والأكثر تضررا» من تحول انخفاض الأسعار إلي انكماش اقتصادي شركات السلع المعمرة. وعلي سبيل المثال , أسعار السيارات ثابتة في بريطانيا وتشهد تراجعا» بطيئا» في البرتغال في حين هبطت في اليونان بنسبة 20٪ مقارنة بأسعار عام 2005
ومن ناحية أخرى أظهر تقرير اقتصادي مستقل تراجع ثقة المستهلكين في الاقتصاد الأمريكي خلال شهر فبراير بعد ارتفاعها في يناير.
واقع الأمر إن الانكماش يشكل مخاطر عديدة، أبرزها تأجيل المستهلكين قرار الشراء على أمل مزيد من الانخفاض في الأسعار مما يكبح الطلب. وإذا انخفضت الأسعار في الاقتصاد وظلت الأجور كما هي تتقلص هوامش أرباح الشركات مما يعني الامتناع عن توظيف العمال أو تسريحهم. (لا يوجد أي من هذه المخاطر بالنسبة لأمريكا وبريطانيا اللتين تشهد فيهما معدلات التوظيف نموا» قويا» ) .
فعندما يكون معدل التضخم عند 2٪ مثلا» يمكن للشركات الغنية بالسيولة أن تختار إعادة استثمار تلك الأموال أو توزيعها علي حملة الأسهم كأرباح. وكلاهما خيار جيد . ولكن انخفاضه إلي الصفر أو أكثر يعطيها مبرر للاحتفاظ بما لديها من أموال.
وإذا كان بنهاية عام 2014 قد بلغ ما لدي الشركات الأمريكية من سيولة ما يقرب من 2 تريليون دولار , والشركات اليابانية 2.1 تريليون دولار أيضا , فإن ارتفاع التضخم سيشجعها علي الإنفاق.
الخطر الثالث المعروف عن الانكماش يتعلق بالديون .فالديون تصبح أكثر إثارة للمشاكل مع بقاء المبالغ المستحق كما هي في حين تنخفض الأرباح . وهذا هو مصدر القلق الكبير في منطقة اليورو، نظرا» لتكبد كثير من بنوكها قروضا
معدومة بمبالغ باهظة. وبحسب دراسة حديثة لشركة ماكينزي الاستشارية , ارتفع إجمالي حجم مديونية – القطاع الحكومي والعائلي والشركات – الدول الخمس الأكثر تعرضا» للمشاكل في منطقة اليورو والثلاث الكبار بين عامي 2007 و2014 إلي 55 ٪ أو أكثر من الناتج المحلي الإجمالي فيها .
والخطر الأكبر هو صعوبة تخفيف السياسة النقدية. فعندما يكون التضخم عند 4?، يمكن للبنك المركزي أن يخفض أسعار الفائدة إلي الصفر. ولكن مع انخفاض التضخم إلي ما دون الصفر ،يصبح من الصعوبة خفض أسعار الفائدة الحقيقية . وقد خفضت معظم البنوك المركزية للدول الغنية بالفعل أسعار الفائدة الرئيسية إلي ما يقارب الصفر من أجل تحفيز الطلب. وهناك عددمتزايدمن الاقتصاديات الأوروبية التي تفرض أسعار فائدة بالسالب لتشجيع الإنفاق، على الرغم من أن تحصيل من الناس مقابل لإيداع أموالهم في البنوك سيدفعهم إلي الاحتفاظ بها في المنزل . وهذا يعني أيضا أن صناع القرار لن يتوافر لديهم فرصة للمناورة في حالة حدوث ركود.
يذكر إن مجلس الاحتياطي الفيدرالي خفض سعر الفائدة بمعدل 3.9 نقطة مئوية في أزمات الركود الستة التي ضربت البلاد منذ عام 1971. وكان الانخفاض الشديد لمعدل التضخم قد دفع المجلس في ديسمبر الماضي إلي التصريح بأنه يرى فرصة لكي يتحلى «بالصبر» قبل رفع سعر الفائدة إلى مستوياته الطبيعية وهو ما يعني أن المجلس رأي أنه من غير المحتمل أن تفرض الظروف الاقتصادية أي زيادة على الأقل خلال عدة اجتماعات مقبلة (للجنة السياسة النقدية).
ولكن الأسبوع الماضي أبدت جانيت يلين رئيسة المجلس تفاؤلا» في كلمتها نصف السنوية أمام لجنة الخدمات المصرفية في مجلس الشيوخ الأمريكي وأشارت إلي انه إذا استمر تحسن الأوضاع الاقتصادية المحلية ,حيث تتوقع اللجنة تحسنا للنشاط الاقتصادي العالمي استجابة لسياسات التحفيز الاقتصادي التي أقرتها البنوك المركزية الرئيسية ، فإنها في لحظة ما ستبدأ التفكير في زيادة معدل الفائدة على الأموال الاتحادية على أساس اجتماع بعد اجتماع (تدريجيا)».
رأي تقرير الايكونومست انه ينبغي علي صانعي السياسة إن يكونوا أكثر قلقا مما يبدو عليه الحال حاليا ، وأن يكونوا أكثر جرأة في قراراتهم الرامية إلي تجنب الانكماش. وقال إن الحكومات في حاجة إلى تعزيز الطلب من خلال إنفاق مزيد من الاستثمارات على البنية التحتية. وان تعمل البنوك المركزية على تخفف السياسة النقدية .