تضجّ طرابلس بمعطيات مقلِقة تتعلق باختفاء عدد كبير من الشبّان صغار السِنّ والتحاقِهم بتنظيم “داعش” وكتمان أهاليهم الأمرَ أمَلاً في عودتِهم، وخوفاً عليهم من الملاحقات الأمنية والقضائية في حال نجوا من جحيم سوريا وقرّروا العودة.
في طرابلس لا حديث سوى عن هؤلاء الشبّان المختفين، وسط معلومات متضاربة إلى درجة أنّ أيّ شخص يرغب في قضاء إجازة في تركيا ويحجز بطاقة سفر إلى هناك بات يُثير الشكوك، في وقتٍ تفيد المعطيات عن وصول بعض الأشخاص إلى مراتب عليا في تنظيم “داعش”، وتحديداً في محافظة الرقّة السوريّة، إذا ما تجاوزنا إشكالية “إشهار” عدد من أبناء الطائفة المسيحية إسلامَهم، الأمرُ الذي شكّلَ صدمةً عنيفة.
أمثلةٌ كثيرة يعطيها الطرابلسيون عن اختفاء أشخاص والتحاقِهم بـ”داعش” من طريق تركيا:
ـ (أ. ي)، والدٌ لطفلين من منطقة باب الرمل، أودعَهما لدى والده قبل أن يختفي، ليتبيّنَ أنّه أصبحَ في الداخل السوري، وقد اتّصلَ بعائلته مفيداً بأنّه لن يعود، وذهبَ إلى “الجهاد” حالماً بالشهادة.
ـ (ج. ع)، من باب الرمل أيضاً، يقول جيرانه إنّه التحقَ بـ”داعش” منذ نحو ثلاثة أشهر وانقطعَت أخباره.
وفي محَلّة باب التبّانة، تدور أحاديث عن شابٍّ اختفى منذ أربعة أيام يدعى (م. ب) تاركاً وراءَه صورةً يرفع فيها سبّابته وكأنّه يعلن الجهاد، وأهلُه يتحفّظون عن إعطاء أيّ معلومات، ولكن كلّ المؤشّرات تفيد أنّه غادرَ إلى تركيا.
وهناك أنباء عن ظهور بلال العتر من باب التبّانة، وسببُ الضجّة أنّه ساهمَ في ذبح الجندي في الجيش اللبناني علي السيّد في جرود القلمون، وهو مطلوب بموجب سلسلة مذكّرات توقيف، أبرزُها تُهَم الإرهاب، وهو ذو أهمّية أمنية فائقة. وفقَ هذه الأحاديث، هل هناك عملية تجنيد ممنهَجة في طرابلس؟ وهل تستهدِف المسيحيّين تحديداً؟
لم تستفِق طرابلس من صدمة الياس الورّاق حتى تلقَّت نبَأ شارلي حدّاد، وكلاهما التحق بـ”داعش”. الأوّل قبضَت عليه القوى الأمنية بعد تفجيرَي جبل محسن، فيما غادرَ الآخر إلى تركيا ولم يعُد. في المقابل تبدو قصّة ج. د. وغيره من الذين اعتنقوا الديانة المسيحية مثيرةً للجدل!.
خارج هذه النماذج المسيحية ثمَّة معلومات عن أشخاص آخرين أشهروا إسلامهم، أحدُهم (ل. ا) ولم يُعثَر عليه مطلقاً، وسط تضارُبٍ في المعلومات عمّا إذا كان موجوداً في طرابلس أو غادرَها.
هذه الحالة دفعَت الهيئات الروحية الإسلامية والمسيحية إلى الاستنفار والوقوف أمام هذه الظاهرة الغريبة، وسط مفارقةٍ هي عدمُ وجود دلائل قاطعة على اعتناق شارلي حداد والياس الورّاق الدينَ الإسلامي، ولكنْ هناك إثباتٌ بأنّهما التحقا بتنظيم «داعش»، وهذا ما يَطرح فرضيّة استمالتِهما من طريق المخدّرات والأموال، خصوصاً أنّهما يعانيان من أزمات حياتية خانقة.
في المقابل يَسود تساؤل كبير وأساسي لا مجيبَ عليه: إذا كان كلّ ما يخصّ طرابلس بريئاً جداً، فمَن يُموِّل انتقالَ هؤلاء إلى تركيا ومِن ثمّ يؤمّن لهم الدخول إلى الأراضي السوريّة؟
ـ سمير الخيال الانتحاري الذي فجَّر نفسَه في جبل محسن ارتكبَ جريمةً مزدوجة، قتلَ نفسَه وجلبَ العارَ لعائلته القاطنة على بُعد خمس دقائق فقط من مكان التفجير.
ويقول مختار باب التبّانة علي عجايا أن ليس مِن وسيلةٍ قانونية معتمَدة لمعرفة أو تقدير اختفاء أيّ شخص، إذا لم يتقدّم أهله ببلاغ أمام السلطات الأمنية. ويضيف: “نسمَع عن حالات كثيرة، لكن ليس مِن أدِلّةٍ سوى روايات بأنّ فلاناً غادرَ ولم يعُد، وأحياناً يتّصل مجهولون بأهلِه ويبلغونهم بأنّه تمّ دفنُه في سوريا على الطريقة الشرعية، الأمر الذي يؤكّد موتَه هناك”.
في المقابل يؤكّد المدرّس والخطيب المنتدب من دار الفتوى، الشيخ محمود الشيخ “أنّ طرابلس ومنذ اندلاع الأحداث في سوريا هي ساحة مفتوحة، وهناك مَن غادرَ وعاد، وهناك مَن لم يعُد ولا نعرف مصيرَه حتى الآن”.
ويتابع قائلاً: “هؤلاء الشبّان يغرَّر بهم، يبحثون عن قضية ويعانون من الإحباط والبؤس في مدينة طرابلس، فلا يجدون سوى “داعش” تلبّي طموحاتهم، فيهربون من واقعِهم المرير نحو فكرة الجهاد، وسط مغرَيات كثيرة وعديدة طالما إنّ التنظيم الإسلامي يشرّع ويحرّم وفقَ مشيئته”.
ويضيف الشيخ: “عندما يتمّ المزج بين الرغبة والشهوة والإيمان، فإنّنا نصبح أمام كارثة إنسانية حقيقية، وبالتالي نتوقّع مزيداً من إقبال الشباب على الانضمام لـ”داعش” نتيجة ضعفِ العِلم وضعف الإيمان، وبالتالي يصبح من غير المستغرَب استخدامُ المخدّرات لإفساد أدمغتِهم وهم في مقتبَل العمر ودفعُهم نحو الهلاك المحتّم”.
أبو جودة
وسط هذه المعطيات تنشَط المرجعيات الروحية في طرابلس لاستنفار شبّانها وتدعيم ثقافتهم الدينية ووعيِهم لكلّ ما يحوط بهم من مصائدَ باسم الدين ومِن عمليات تجنيد مفترَضة ومحاولاتٍ لزعزعة إيمانهم، إنْ كانَ بالارتداد عن ديانتهم واعتناق ديانات أخرى، أو لحَضِّهم على الالتحاق بتنظيمات متشدّدة لا تمتّ إلى الدين بصِلة، وفقَ خططٍ ممنهَجة مدروسة تبدأ “في سبيل الله” وتنتهي بانتهائهم.
أراعي أبرشية طرابلس المارونية المطران جورج أبو جودة يؤكّد لـ”الجمهورية” أنّ الحالات الشبابية التي ارتدّت عن دينها هي حالات قليلة جداً، وهي متبادَلة، أي أنّ هناك مرتدّين من المسيحية إلى الاسلام، والعكس أيضاً”، مشدّداً على أنّ “الشباب المسيحي ينشَط في القرى المجاورة لطرابلس لدرسِ اللاهوت وعقدِ ندوات توعية للأهالي والشباب”، مشيراً إلى أنّ “عدد هؤلاء الشبّان لا يُستهان به، وهم يواظبون على درس عِلم اللاهوت والإرشاد في محيطهم”.
ويوضِح أنّ سببَ اعتناق فردٍ أو آخر ديناً مغايراً “أمرٌ لطالما شهدَه كلّ لبنان، وليس طرابلس فقط، وهو ليس ظاهرةً جديدة، إذ يحصَل غالباً نتيجة علاقة عاطفية بين حبيبَين يختلفان بالدين فيضطرّ الشاب إلى التخَلّي عن ديانته واعتناق ديانة أخرى للارتباط بالشريكة. وهذه حالات فردية”.
ويكشف في المقابل أنّه “غالباً ما يأتي شبّان مسلِمون إلى الأبرشية طالبين اعتناقَ الديانة المسيحية، إلّا أنّنا لا نجاهر بذلك علناً، ونعمل بصمتٍ لقبولِهم أو رفضِهم وفق المعطيات التي تؤكّد لنا صدقَ نيّاتهم وغاياتها”، متحدّثاً عن شابَّين حضَرا أخيراً إلى الأبرشية وطلبَا أن يخضعا لسرّ العماد ليصبحا مسيحيَّين، مؤكّداً أنّ “الكنيسة لا تتخوّف من الحالات النادرة التي تُضَخَّم في الإعلام، والمقاماتُ الروحية تراقبها بصَمت وتعالجُها بمسؤولية”.