مفهوم “الأمن الصحي” يتمثل بوجود نظام صحي متماسك وشفاف يتيح عدالة صحية تصل الى الخدمات النوعية، بفاعلية متساوية ومتوازنة بين الوقاية والعلاج، ضمن بيئة صحية متكاملة. وتتميز هذه البيئة بعقد اجتماعي ادبي معنوي يتمثل بشراكة بين مقدم الرعاية اي وزارة الصحة والطبيب والمستشفى ومتلقي الرعاية اي المواطن، وهذه الشراكة قائمة على الحقوق والواجبات، خصوصا ان مفهوم الدولة الحديثة والانظمة الديموقراطية تستمد شرعيتها من الصحة والتعليم وأنظمة التأمينات الاجتماعية.
ما نشهده اليوم من “فولكلور” عام واستعراضات تلفزيونية خصوصا على الصعيد الصحي الذي تتناتشه التلفزيونات ولا سيما لجذب المشاهدين من خلال الإثارة الشعوبية يضر بالمريض ولا يفيده. وعوض العمل بمنهجية صامتة وخطة مستقبلية تعزز الأمن الصحي، يصر جميع المسؤولين على انها “المرة الاولى” التي يتم فيها معالجة شأن ما من خلال فضحه، فانتهينا الى انكشاف الامن الصحي وتعريته لينعكس ضررا يستغله بعض المنتفعين.
طبعا ثمة أخطاء طبية، وهناك بعض من يعمل من دون ضمير احيانا، والمحاسبة ضرورية وكذلك العقاب. ولكن ذلك يحصل ضمن لجنة خاصة، وليس من خلال محاكمات تلفزيونية عشوائية غير مبنية على أسس علمية، ولا تقدم في الأمن الصحي الا زعزعة ثقة المواطن وسلامة تعاطيه مع الخدمات الصحية القائمة.
مسار الحياة اصبح افضل في لبنان والمنطقة وزاد معدل الحياة بنسبة 8 سنوات تقريبا (في ما عدا الحروب) حيال الأنماط الصحية والسبب الرئيسي كما تشير الدراسات. هو التقدم الحاصل في المسائل الطبية وقدرة الناس على الوصول الى الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية مع ما رافق ذلك من تطور في التدخلات الطبية التشخيصية والكشف المبكر والعلاجات والجراحات وخصوصا المتعلق منها بالأمراض المزمنة والسرطانية. بعض المؤشرات خفّض معدلات وفيات الأمهات، وحققت الأهداف الألفية الإنمائية وكان لبنان البلد الاول في اقليم شرق المتوسط الذي حقق ذلك. وخفض وفيات المواليد والأطفال بنحو ٣ أضعاف او اكثر. كل هذه المؤشرات ما كانت لتحصل لو لم نكن نملك جهازا طبيا كفيا غالبا ما عمل في ظروف غير ملائمة حيال فقدان الشفافية في النظام واعتماد الواسطة الطائفية والزبائنية السياسية وانحسار الدور التنظيمي والوقائي للوزارة منذ فترة اذ أصبحت معظم الخدمات منوطة بالقطاع الخاص بنحو ٨٥ في المئة، وكذلك انتشار المستوصفات بشكل غير مدروس.
وعلق وزير الصحة السابق الدكتور محمد جواد خليفة للـ”النهار” كونه جراحا اولا ووزيرا سابقا للصحة، انه “يتم تسليط الضوء على امور عديدة، ومن الطبيعي ان يكون الوزير منحازا الى المواطن لرفع صوته ويعالج المشكلات الموجودة التي يرتكبها بعض الاطباء والمستشفيات وشركات التأمين وغيرها وحتى المسؤولين. ويجب تشخيص المشكلة واظهارها للرأي عام، ولكن لا بد من آلية عمل لمعالجة المستجدات للوصول الى النتيجة المطلوبة. فالاضاءة على الامور والمشكلات أمر مهم ولكن المبالغة في ذلك تؤدي الى مفعول عكسي، مثل المبالغة في اثارة موضوع المستشفيات الحكومية. عند تسلمي وزارة الصحة كانت هناك 3 مستشفيات حكومية تعمل في لبنان وفي اصعب الظروف وضمن حكومات عمرها قصير جدا ترحل تحت المشكلات السياسية. وفي غياب اي موازنات استطعنا افتتاح 19 مستشفى حكوميا كانت مقفلة لاكثر من 10 سنوات على الرغم من مشكلات التلزيمات وغيرها. واستطاعت ان تتألق بأدائها الطبي وان تحتوي العجز السنوي في بند الاستشفاء بأكثر من 30 مليار ليرة، وان توفر توازنا مع القطاع الخاص وتنافسه. وأرى انه كان من الضروري ان يتحسن أداء هذه المستشفيات لان عمر الحكومات التي تلت كان أطول وكانت متجانسة سياسيا، وأنفقت اكثر بكثير من المراحل الماضية، ليتبين ان معظمها يواجه مشكلات ومهدد بالاقفال، ولم يتم زيادة اي قسم او تجديد أي معدات فأين مشكلة الطبيب والمواطن في ذلك؟ ان المشكلة تكمن في تأسيس نقابات مهنية ميليشيوية داخل هذه المستشفيات تفرض شروطها الادارة والتوظيفية وتحد من تقدمها”.
أما في موضوع الاخطاء الطبية، فقال: “يجب مأسسة الالية التي تنظر في هذه الامور منذ بدايتها حتى نهايتها عبر تأسيس لجان اولية متكاملة من النقابات المعنية والقضاء ليتم النظر بكل امر والتحقيق بجديته واحالته الى القضاء فورا”. وحذر من ان المبالغة في هذه الامور “تقود الى ما يحصل حاليا في الولايات المتحدة الاميركية وفي اوروبا حيث ارتفعت الكلفة الاستشفائية والطبابة عشرات المرات نتيجة التأمينات التي اصبحت تفرضها المؤسسات الاستشفائية والاطباء لتسديد ما يسمى “التطبيق الخاطئ”، ودفع المريض ثمن هذه الفاتورة من دون ان يستفيد منها لأن معدل هذه الاخطاء بقي على حاله، وذهبت الى جيوب شركات التأمين والمحامين”. وشدد على ضرورة وجود نظام محاسبة يحفظ التوازن المهني والاخلاقي بين الطبيب والمريض وعدم تحويل هذه المهنة الى مرتكزات مادية فقط. “اما في موضوع ان لبنان ينفق كثيرا على الصحة هو كذر الرماد في العيون وهو غطاء تستخدمه الدولة للتهرب من الانفاق على هذا القطاع الصحي الاجتماعي، فالمواطن اللبناني يستخدم افضل المستشفيات والادوية واساليب التشخيص من معدات متطورة وبامكانه اجراء اي عملية جراحية او اي علاج خلال فترة 24 الى 48 ساعة اذا رغب في ذلك بكلفة لا تتجاوز 700 دولار في السنة عن كلفة كل مواطن (في المقابل مع لوائح الانتظار في كندا واميركا واستراليا وبريطانيا ومعظم الدول المحيطة)، إذ تبلغ كلفة المواطن الصحية اكثر من 5 آلاف دولار اميركي، وعلى يد افضل الاطباء الذين يتمتعون باعلى الشهادات العالمية والذين حصلوا عليها بواسطة الامتحانات فقط من دون ان يمنحها ولي او زعيم”.