IMLebanon

هل يطلق مؤتمر “مارس” عملية التعافي الاقتصادي المصري؟

EgyptEconMoney
عمرو عادلي
تعلّق الحكومة المصرية آمالاً كبيرة على مؤتمر الاستثمار الدولي المُزمَع عقده في منتصف شهر آذار/مارس 2015 في منتجع شرم الشيخ، لجذب تدفقات رأسمالية ضخمة، والذي من المخطط أن يحضره العديد من رؤساء الحكومات والدول، جنباًس إلى جنب مع ممثلي الشركات الكبرى وبنوك الاستثمار. تهدف الحكومة المصرية من وراء المؤتمر، الذي سينعقد على مدار ثلاثة أيام، إلى تصدير صورة من الاستقرار السياسي بعد أربع سنوات من الاضطراب السياسي غير المسبوق في تاريخ البلاد الحديث، وإلى جذب الاستثمارات الأجنبية اللازمة لإطلاق عملية التعافي الاقتصادي في المدى المتوسط والبعيد.
يبدو جذب تدفقات ضخمة من الاستثمارات الأجنبية هو الحلّ الأمثل لتحسين وضع ميزان المدفوعات، ولإعادة بناء الاحتياطيات النقدية الأجنبية. كما أن الاستثمارات المباشرة من شأنها أن تسهم بشكل رئيس في التعافي الاقتصادي من خلال حفز معدلات النمو والتشغيل، وبالتالي تخفيض معدلات البطالة. وتعتبر الاستثمارات الأجنبية بديلاً عن التوسع في الاقتراض الخارجي، ولاسيما أن المؤشرات الحالية للدين العام بشقَّيه المحلي والأجنبي تقترب من 90٪ من الناتج المحلي الإجمالي، بما يتجاوز الحدود الآمنة طبقاً للكثير من التقديرات الاقتصادية.
ولايخفى أن التعافي الاقتصادي وإعادة رفع معدلات النمو والتشغيل والاستثمار، مسألة جد خطيرة لشرعية النظام السياسي المدعوم من القوات المسلحة، والذي بنى مشروعية تدخّله منذ تموز/يوليو 2013 وانتخاب عبد الفتاح السيسي رئيساً فيما بعد، على استعادة الاستقرار السياسي والأمني وإعادة إطلاق الاقتصاد المصري بعد طول تباطؤ.
يوفر المؤتمر فرصة للقيادة السياسية المصرية لإبراز ماتمّ إنجازه على الصعيدَين السياسي والاقتصادي، والذي يظل منقوصاً نتيجةً لعدم وضوح قدرة النظام السياسي الحالي على ضمان الاستقرار. ويتزامن هذا مع انخفاض أسعار البترول العالمية، ومايضعه ذلك من ضغوط شديدة على ماليات البلدان الخليجية المتحالفة مع النظام المصري الجديد، والتي وفّرت مساعدات كبيرة في المراحل التي تلت إطاحة الرئيس الإخواني محمد مرسي. ولاشك أن هذه التحديات الاقتصادية الجديدة هي التي ستحدّد قدرتها المستقبلية على دعم التعافي الاقتصادي في مصر.
إصلاحات محفّزة للاستثمارات الخاصة
عانى الاقتصاد المصري من مجموعة من الأزمات الاقتصادية المركبة في أعقاب ثورة يناير 2011 التي أطاحت الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك. وقد تمثّلت تلك الأزمات في تفاقم العجز في الموازنة حتى بلوغه مايناهز 12٪ من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2013/2014 طبقاً لتقديرات وزارة المالية، وعجز في ميزان المدفوعات ناتج عن هروب رأس المال الأجنبي وانكماش القطاع السياحي، إضافة إلى تضاؤل الاحتياطيات النقدية الأجنبية من 35 مليار دولار في كانون الثاني/يناير 2011، إلى حوالى 15 مليار دولار في كانون الثاني/يناير 2015. ولم تكن هذه المشكلات بجديدة بقدر ماكانت قضايا ذات طابع هيكلي مزمن حوّلتها الأزمة الاقتصادية الناتجة عن الاضطراب السياسي والإدارة السيئة للمرحلة الانتقالية، إلى أزمات ملحّة وضاغطة.
سعى عبد الفتاح السيسي سريعاً إلى إثبات الالتزام والقدرة على تبنّي سياسات تصبّ في صالح جذب الاستثمارات الخاصة. وسعَت الحكومة المصرية إلى التمهيد لاستعادة مناخ صديق للاستثمار، من خلال تغييرات في السياسات الاقتصادية الكلية، خاصة في مايخصّ العجز في الموازنة وأسعار الفائدة وسعر الصرف، إضافة إلى تعديلات تشريعية تستهدف إعادة تعريف العلاقات بين الدولة والقطاع الخاص.
ففي تموز/يوليو الماضي، اتّخذ عبد الفتاح السيسي، بعد أسبوعَين على تقلّده الرئاسة، قراراً بتخفيض الدعم الحكومي الموجَّه إلى الطاقة، والذي كان يمثّل في المتوسط نحو 20٪ من الإنفاق العام في السنوات مابين 2008 و2012. 1 وقد هدفت القرارات برفع أسعار الوقود المحلية، إلى توفير نحو 40 إلى 50 مليار جنيه (5.2 إلى 6.6 مليارات دولار) في موازنة العام المالي الجاري. وقد أتت هذه القرارات قبيل الانخفاض الكبير في أسعار الوقود العالمية في الشهور الثلاثة الماضية، والتي بلغت أقل من نصف ماكانت عليه في مطلع العام المالي، على نحوٍ يصبّ في صالح تخفيض تكلفة دعم الوقود على الحكومة المصرية، ويخفّف من العجز الحكومي من دون اتخاذ المزيد من الإجراءات التقشفية التي قد لاتكون محلّ قبول سياسي واسع.
وبالتوازي مع إعادة هيكلة دعم الوقود، اتّخذ البنك المركزي المصري سلسلة إجراءات يمكن اعتبارها تمهيداً لمؤتمر مارس، وتشجيعاً لجذب الاستثمار الأجنبي. كان الإجراء الأول تخفيض أسعار الفائدة في 15 كانون الثاني/يناير 2015، وتخفيض سعر صرف الجنيه المصري من خلال سلسلة قرارات، مابين آخر كانون الثاني/يناير وأول شباط/فبراير، تمخّضت عن تخفيض الجنيه بمقدار 7٪ في مواجهة الدولار الأمريكي. هذا الأمر عدّه الكثيرون استباقاً لمؤتمر مارس بهدف تخفيض مخاطر تحويل العملة، خاصة في ضوء الانخفاض الكبير في احتياطيات النقد الأجنبي الضرورية لدعم الجنيه في مواجهة الدولار، وكذا استجابة لمطالب قديمة من المؤسسات المالية العالمية بتخفيض قيمة الجنيه، إضافة إلى تخفيض مخاطر تحويل العملية. فتخفيض قيمة الجنيه يهدف إلى الحدّ من السوق السوداء وتوحيد سعر الصرف الفعلي، وهذا إجراء له وقع إيجابي على الاستثمار الأجنبي، ناهيك عن الأثر التقليدي المنتظر لتخفيض سعر صرف الجنيه من دعم التصدير وخفض العجز في الميزان التجاري.
كما اتجهت الحكومة المصرية إلى تخفيض المخاطر المرتبطة بعدم استقرار السياسات العامة والقوانين كوسيلة لطمأنة المستثمرين من القطاع الخاص. ففي هذا السياق كان صدور القرار الجمهوري بقانون من الرئيس السابق عدلي منصور، بحظر الطعن على العقود الحكومية، الأمر الذي قلّص بشكل حادّ صلاحيات مجلس الدولة، وهو أعلى هيئة قضائية إدارية.2 فقد كان لمجلس الدولة دور رئيس في إبطال العديد من القرارات الحكومية التي قامت على أساسها عقود مع القطاع الخاص في مجالَي تخصيص الأراضي وخصخصة شركات القطاع العام، على نحو أحرج مركز الجهاز التنفيذي غير مرة، وضاعف من مصادر عدم اليقين للمستثمرين. كما ترتّب على القرار بحظر الطعن في العقود، وقف النظر في القضايا الموجودة بالفعل أمام مجلس الدولة، مايعني سدّ هذا الباب لفترة مقبلة من الزمن.
وقد استمر خط تركيز السلطة في الجهاز التنفيذي على حساب القضاء والسلطة التشريعية، في مرحلة مابعد 3 تموز/يوليو 2013. إذ تم تعديل قانون المناقصات والمزايدات على نحو يزيد من صلاحية السلطة التنفيذية في ترسية العطاءات بالأمر المباشر، وتخصيص الأراضي من دون اللجوء إلى إجراءات المناقصات والمزايدات. ومع أن جلّ النقد الذي وُجِّه إلى هذه التعديلات أتى من زاوية توسيع قدرة السلطة التنفيذية على إسناد المشروعات بشكل مباشر إلى القوات المسلحة والأجهزة التابعة لها، إلا أنه يبدو أن جزءاً من دوافع التعديل كان إرساء قواعد جديدة أقل شفافية وأقل قابلية للمحاسبة، تعطي التطمينات والضمانات الكافية للاستثمار على المدى البعيد. وتأتي أهمية هذه المسألة خاصة في ضوء استهداف الحكومة جذب رؤوس أموال أجنبية في مجالات الشراكة بين القطاع الخاص والعام في قطاعات كالمرافق والبنية الأساسية من خلال صيغPPP 3.
وكان الكثير من المراقبين يتخوّف من أن صعود نفوذ الجيش السياسي سيصبّ في صالح زيادة فرصه الاقتصادية بما يزاحم القطاع الخاص، ويحيل مصر إلى حالة قريبة من نماذج التنمية التي تهيمن عليها الدولة، وهو ماثبت عدم صحته. إذ أن توسّع الجيش الاقتصادي لايبدو أنه سيزاحم بالضرورة القطاع الخاص، أمحلياً كان أم أجنبياً. فمن ناحية، ثمة تقسيم للعمل بين القطاع الخاص وإمبراطورية الجيش الاقتصادية، بتركّز الأخير في مجالات البنية الأساسية. هذا التقسيم هو نفسه الذي كان سائداً إبان حكم مبارك، والذي شهد نشأة القطاع الخاص المصري وتوسّعه، وجذب رؤوس الأموال العربية والأجنبية. ومن ناحية أخرى، إن صعود الجيش السياسي وهيمنته على النظام قيد التشكّل، تُرجِم إلى مساحة أكبر من الاستقرار وبناء الثقة، بل والشراكة مع رأس المال الأجنبي، كما هو ظاهر في حالة الإمارات العربية المتحدة، التي تجمع بين كونها حليفاً سياسياً للنظام السياسي الجديد في مصر، وبين كونها شريكاً اقتصادياً في الوقت نفسه. وقد كان تصدر القوات المسلحة كشريك في بعض المشروعات في الشهور الماضية، بغرض بناء الثقة مع المستثمرين الأجانب، في ظل اضطراب الجهاز البيروقراطي المدني وعدم ضمان تعاونه الكامل. ومن هنا كان ماتردّد حول تفضيل الإماراتيين للشراكة مع الجيش في مشروعات كبيرة كمشروع المليون وحدة سكنية، الذي تعمل شركة آرابتك على تنفيذه مع الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
وظهرت مساحات للتكامل بين اقتصاد الجيش وبين القطاع الخاص في مشروعات كبيرة كقناة السويس الجديد، والتي تشهد طبقاً لتصريحات إعلامية من الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة، مشاركة مايزيد عن سبعين شركة خاصة. وقد استُخدِم التوسّع الأخير في المشروعات القومية التي يلعب فيها الجيش دوراً رئيساً، سواء على مستوى التخطيط أم التنفيذ، للدلالة على وجود نشاط اقتصادي وفرص يمكن الاستثمار فيها،4 خاصة المرحلة الثانية من مشروع قناة السويس، التي تُعرَف بمحور القناة، والتي تستهدف الحكومة من خلالها تحويل قناة السويس إلى منطقة اقتصادية للأنشطة الصناعية والخدمية والتجارية بمشاركة كبيرة من رأس المال الأجنبي.
عودة المؤسسات المالية العالمية إلى المشهد
من الأمور المثيرة للانتباه عودة المؤسسات المالية العالمية إلى المشهد عشية المؤتمر الاقتصادي، والحديث المتزايد عن دورٍ للبنك الدولي وصندوق النقد في وضع السياسات النقدية والتجارية والمالية المصرية في الفترة المقبلة، وتكثيف المحادثات غير المعلنة في بعض الأحيان بين المسؤولين المصريين وبين ممثّلي المؤسسات المالية العالمية هذه. وتؤشّر عودة البنك والصندوق إلى صدارة المشهد، إلى أن الحكومة المصرية تدرك جيداً أهمية التقارب مع هذه المؤسسات كعنصر طمأنة وجذب للاستثمارات الأجنبية.
وقد غاب البنك الدولي وصندوق النقد عن المشهد الاقتصادي المصري منذ العام 2013 عند إطاحة القوات المسلحة محمد مرسي. إذ أن المؤسستين وقتذاك أحجمتا عن التعامل مع الحكومة المصرية لشبهات عدم الدستورية، وفي الوقت نفسه، تلقّت الحكومة المصرية مساعدات مالية بالغة الضخامة من بلدان الخليج، ثم كانت في حالة من التفاوض مع صندوق النقد الدولي على شروطٍ لحزمة إنقاذ مالي، كانت ستستلزم إجراءات تقشفية.
لكن في إطار الإعداد لمؤتمر مارس، أخذ انخراط البنك الدولي والصندوق في صياغة سياسات مصر النقدية والتجارية والمالية في التزايد، كما تضاعفت الاتصالات بين الحكومة والمؤسستين الماليتين. علاوة على ذلك، فإن الإصلاحات المصرية في مجالَي السياسات والتشريعات، والتحسّن المستمر في تصنيف البلاد الائتماني، والذي اقترب في بداية 2015 من المستويات السابقة للثورة، حظيت بتقييم إيجابي من المؤسسات المالية العالمية. ففي كانون الأول/ديسمبر 2014، رفعت مؤسسة فيتش تصنيف مصر الائتماني لأول مرة منذ أربع سنوات إلى درجة “ب” بعد تخفيضات متعاقبة. وفي شباط/فبراير 2015، صدر تقرير عن صندوق النقد الدولي أشاد بالإصلاحات الاقتصادية المصرية الأخيرة، وأشار إلى أن الاقتصاد المصري يمضي في الطريق السليم.
وفي الأغلب، تبرهن هذه التغيرات على نوايا الحكومة المصرية في الالتزام بتوصيات البنك الدولي وصندوق النقد في مجالات خفض العجز في الموازنة، وحصار التضخم، وتشجيع القطاع الخاص، والالتزام المستقبلي بإجراءات إعادة الهيكلة المالية والتحرير الاقتصادي.
المسار السياسي ومشكلاته
يقع في القلب من تحديات إنجاح مؤتمر مارس التدليل على أن المسار السياسي الذي سلكته البلاد منذ 3 تموز/يوليو 2013 سيقود إلى تشكيل نظام سياسي قادر على التماسك والبقاء وإنتاج سياسات تدعم التنمية الاقتصادية. وقد نجحت القوات المسلحة مدعومة من العديد من القوى السياسية والاجتماعية ومن أجهزة الدولة، في الدفع قدماً بخريطة الطريق. ونجحت أيضاً في تمرير وثيقة دستورية جديدة للبلاد، ثم في عقد انتخابات رئاسية في أيار/مايو 2014، انتهت بتولّي المشير عبد الفتاح السيسي رئاسة الجمهورية. ولم يتبقَّ لاستكمال المرحلة الانتقالية الجديدة سوى انتخاب برلمان في آذار/مارس ونيسان/أبريل 2015. وليس من قبيل الصدفة تأجيل المؤتمر الاقتصادي إلى حين تحديد موعد نهائي لانتخابات البرلمان بغية التأكيد على أن المرحلة الانتقالية قد تمّت. لكن التصويت البرلماني عُلِّق بعد أن حكمت المحكمة الدستورية العليا بأن المادة من قانون الانتخاب المتعلّقة بتقسيم الدوائر ليست دستورية. إلا أن الرئيس كان حريصاً على تدارك هذا العائق بتكليف الحكومة بتعديل القانون في خلال شهر على أقصى تقدير، مايجعل إعادة فتح باب الترشيح للانتخابات في نيسان/أبريل.
تصاعدت أحداث الاحتجاج قبيل أسابيع من عقد المؤتمر، خاصة في ذكرى ثورة يناير، التي شهدت تصعيداً احتجاجياً من جانب قوى سياسية على رأسها الإخوان المسلمين وحلفائهم الذين مالبثوا يتابعون احتجاجهم منذ خلع مرسي، هذا بجانب قوى سياسية أخرى لاترى نفسها مشمولة بالمسار السياسي الجديد، خاصة مع التضييق الملموس على الحريات العامة، وعلى الحق في التظاهر والإضراب، وارتفاع وتيرة القمع.
وليس بخافٍ أن القوى المحسوبة على الإخوان المسلمين، والتي يقام المجال السياسي الجديد باستبعادها بالكامل على خلفية اتهامات بتورّطها في أعمال عنف ومساندة للإرهاب، تسعى إلى تعميق أزمة النظام السياسي الجديد الاقتصادية والأمنية. ومن هنا كان تصعيدها لأعمالها الاحتجاجية مع اقتراب موعد المؤتمر، وهو ماقد يشير إلى قصور مبكر في النظام السياسي مفاده عدم القدرة على احتواء القوى الاجتماعية والسياسية كافة، وعدم القدرة على توسّط الصراع السياسي من خلال المنافسة الحزبية، ومن خلال مجال سياسي متنوّع. وهي مسائل قد تفاقم مشكلة الإرهاب الذي تواجهه البلاد خاصة في سيناء، وقد تؤسّس لمرحلة من الاضطراب السياسي تتناقض ومساعي التعافي الاقتصادي على المدى البعيد.
إن شكل النظام السياسي الآخذ في التشكّل وقدرته على التماسك والاستقرار والعمل بفعالية، قضية غاية في الخطورة ومفصلية لإنجاح مؤتمر مارس، ومايليه من إجراءات الهدف منها جذب الاستثمارات الأجنبية وتنشيط الاقتصاد. وقضية النظام السياسي أشدّ أهمية على المدى المتوسط من التغييرات في سياسات الاقتصاد الكلي والإصلاحات التشريعية.
قيود تقليدية على الاستثمار الأجنبي
صرّح وزير الاستثمار المصري أن الحكومة تأمل في جذب مابين 10 و15 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية في السنتين المقبلتين من خلال مؤتمر مارس. وقد تكون هذه التقديرات – التي تتخطّى بكثير المعدل المعتاد للاستثمار الأجنبي المباشر في مصر – مفرطة في التفاؤل في ضوء السياقات العالمية والمحلية والقيود الهيكلية التي لطالما حكمت تدفّق الاستثمار الأجنبي للاقتصاد المصري.
لم تكن مصر تقليدياً من البلدان المتلقّية للكثير من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ولم ينعقد تاريخياً للاستثمارات الأجنبية المباشرة وزن كبير كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي المصري مقارنةً باقتصادات نامية أخرى. ففي الفترة بين 1990 و2004، كان متوسط نصيب الاستثمار الأجنبي المباشر 0.9٪ من الناتج المحلي الإجمالي، ثم مالبث أن ارتفع بشكل كبير في الفترة بين 2004 و2009، ليبلغ 5.86٪ من الناتج. ولكن يمكن اعتبار تلك الفترة السابقة للأزمة المالية العالمية بمثابة الاستثناء لا القاعدة.5
والحقّ فإن الارتفاع الكبير الذي حدث في السنوات السابقة للأزمة المالية العالمية في العام 2008، غير مرشح للتكرار في السنوات المقبلة نظراً إلى ظروف عدة عالمية كما محلية، إذ أن الاقتصاد العالمي لم يتعافَ منذ أزمة كانون الأول/ديسمبر 2008. ومحلياً، كان الارتفاع الكبير في الاستثمار الأجنبي المباشر إبّان حكومة أحمد نظيف (2004-2011) مرهوناً بالتزامٍ بإصلاحات نيوليبرالية واسعة النطاق، ولاسيما في مجال خصخصة الشركات المملوكة للدولة. وكان حادثاً في فترة تتمتعّ فيها باستقرار سياسي وأمني هو بالقطع أفضل حالاً من الوضع القائم.
ويُضاف إلى ماسبق أن التركيز القطاعي للاستثمار الأجنبي كان، تقليدياً وتاريخياً، في قطاعات الطاقة واستخراج البترول والغاز الطبيعي. ومع انخفاض أسعار الطاقة العالمية، فإنه من غير المنتظر أن يشهد هذا القطاع توسّعاً في الاستثمار، وليس هناك مايدعو إلى تصوّر أن توسّعاً غير مسبوق قد يجري في القطاعات التي لم تكن تجذب الاستثمارات الأجنبية بشكل كبير عن ذي قبل، كالسياحة والخدمات والصناعة التحويلية والزراعة.
الدوافع السياسية للتمويل الخليجي والأبعاد الجيوسياسية
من أهم العوامل الحاكمة لاحتمالات التعافي الاقتصادي في مصر رغبة وقدرة بلدان الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، على دعم مصر في مساعيها نحو التعافي الاقتصادي.
لطالما اعتبرت حكومات الخليج وجود حكومة صديقة في مصر أمراً ضرورياً من أجل الأمن الإقليمي، ومن ثم كان استثمار السعودية والإمارات العربية بكثافة في دعم النظام السياسي الجديد في مصر المدعوم من الجيش سياسياً ودبلوماسياً ومالياً منذ تموز/يوليو 2013. فقد بلغت المساعدات الخليجية التي تدفّقت في أعقاب التخلّص من مرسي، نحو 20 مليار دولار في السنة المالية 2013/2014، كان جلّها على هيئة مساعدات للخزانة لدعم الاحتياطيات النقدية الدولارية، ولتوفير مايلزم من مواد بترولية أساسية، ماحدا بالرئيس السيسي إلى القول في خطاب له، في شباط/فبراير الماضي، إنه لولا المساندة الخليجية السخية لما تمكّنت مصر من النجاح في عبور المرحلة الانتقالية الأخيرة التي تلت إطاحة مرسي.
بيد أنه ما إن صعد السيسي إلى سدة الرئاسة حتى توقّف دعم الخزانة المصرية من جانب الإمارات العربية والمملكة العربية السعودية تماماً تقريباً، وتحوّل الحديث من جانبهما إلى تهيئة المجال لتدفق الاستثمارات لا المساعدات، مع إلزام الحكومة المصرية باتخاذ إجراءات تقشفية كخفض دعم الوقود، إلى جانب إصلاحات تشريعية سبق ذكرها. وثمة حديث غير رسمي عن حضور قوي للمالية السعودية والإماراتية في تصميم السياسات الاستثمارية في مصر، والتهيئة لمؤتمر مارس وجذب رؤوس الأموال، مايعني أن الخليج لايعتبر نفسه بديلاً عن الاقتصاد العالمي بقدر مايعدّ نفسه شريكاً وحليفاً لمصر بغية تهيئتها للاندماج مرة أخرى في أسواق المال العالمية. وكانت من هنا فكرة دعوة الخليج إلى مؤتمر عالمي لدعم مصر، لتوسيع دائرة الدول التي قد تتحوّل إلى مصادر استثمارات تدعم التعافي الاقتصادي، وبالتالي المسار السياسي مابعد تموز/يوليو 2013. وهذا ملمح آخر للتكامل بين دور الخليج السياسي/الاقتصادي وبين إعادة دمج الاقتصاد المصري في الاقتصاد العالمي على أسس ليبرالية اقتصادية.
ومن ثم يمكن الدفع بأن حدوث طفرة في حجم تدفقات الاستثمار الأجنبي للاقتصاد المصري في السنوات القليلة المقبلة، سيكون غالباً مدفوعاً باعتبارات سياسية وجيوسياسية من بلدان الخليج الداعمة للمسار السياسي الحالي، ولايمكن التقليل من أثر الدوافع السياسية على تدفّقات رأس المال بعد التحولات السياسية الكبيرة. فعلى سبيل المثال، لعبت المساعدات والاستثمارات الأجنبية دوراً رئيساً في إنجاح التحوّل الديمقراطي والرأسمالي في دول شرق ووسط أوروبا في التسعينيات بعد سقوط حائط برلين. وقد كانت هذه التدفّقات مدفوعة بعوامل اقتصادية بحثاً عن فرص جديدة وعن أيدي عاملة مدرّبة، لكنها في الوقت نفسه كانت مدفوعة بمشروع سياسي يتعلّق بتوسيع حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ماخلق تداخلاً كبيراً بين الاقتصاد والسياسة. وينطبق الأمر نفسه اليوم في منطقة الشرق الأوسط مابعد الثورات العربية، وبروز دور البلدان الخليجية في دعم مسارات سياسية معينة.
على الرغم من أنه من المستبعد أن تكرّر بلدان الخليج المساعدات السخية ذاتها لمصر، فإن السؤال يدور حول قدرة البلدان الخليجية الحليفة على الوفاء بالتوقّعات مع انخفاض أسعار النفط العالمية في الشهور الثلاثة الماضية إلى مادون النصف مما كانت عليه. فمن المعروف أن بلدان الخليج قد تكيّفت مع دورات صعود وهبوط أسعار النفط العالمية منذ السبعينيات، عن طريق تكوين احتياطيات ضخمة في سنوات الرخاء تستخدمها للحفاظ على مستويات الإنفاق العام في سنوات الجدب، وهو مايضع ضغوطاً على الفوائض التي راكمتها هذه البلدان منذ العام 2008، ويطرح سؤال ما إذا كان لديها مايكفي من موارد لتوجيه جزء منها إلى الاستثمار في مصر انطلاقاً من مؤتمر مارس.
قد تكون الإجابة كامنة في حجم الاحتياطيات الدولارية التي راكمتها بلدان الخليج الحليفة لمصر من ناحية، ومستقبل سعر البترول من ناحية أخرى، وما إذا كان هذا الانخفاض سيدوم لفترة طويلة، على غرار سنوات التسعينيات التي شهدت انخفاضاً مستمراً طيلة عقد من الزمن.
تحتفظ المملكة العربية السعودية بأكبر ثالث احتياطيات دولارية على مستوى6 العالم، بلغ تقريباً 740 مليار دولار في 31 كانون الأول/ديسمبر 2013. 7 وإلى جانب السعودية، فإن الاحتياطيات الرسمية المعلنة للإمارات تبلغ قرابة 58 مليار دولار، والكويت 34 مليار دولار في التاريخ ذاته. وتجدر الإشارة إلى أنه، إلى جانب الاحتياطيات الدولارية لدى البنوك المركزية، يملك صندوق أبو ظبي السيادي أصولاً وصلت إلى 773 مليار دولار في أيلول/سبتمبر 2014، فيما كانت هيئة الاستثمار الكويتي، وهي صندوق سيادي، تملك 548 مليار دولار في التاريخ نفسه.8
فهل سيكون في مقدور دول الخليج أن تفي بتعهّداتها تجاه مصر وتضخّ الاستثمارات المطلوبة في السنوات القليلة المقبلة، حتى ولو ظلت أسعار البترول على انخفاضها؟ لعل هذا الأمر متعلّق بإدارة بلدان الخليج لما راكمته من فوائض والظروف المحلية في داخل هذه البلدان نفسها، وإن كان بالإمكان القول إن بلداناً كالإمارات العربية المتحدة ستكون لديها في الغالب مرونة كافية لاستخدام مواردها في ظل محدودية عدد السكان من ناحية، وتنوّع الاقتصاد نسبياً من ناحية أخرى، مقارنةً ببلد كالمملكة العربية السعودية.
الخلاصة: السياسة تغلب الاقتصاد
تقدّم حالة مؤتمر مارس والنتائج المترتبّة عليه نموذجاً للتداخل الشديد بين الاقتصاد والسياسة، إذ تتداخل مطالب تحقيق التعافي الاقتصادي باعتبارات تدعيم سلطان النظام السياسي الجديد برئاسة المشير عبد الفتاح السيسي، وباعتبارات إقليمية متصلة بأمن دول الخليج. وسيظهر المؤتمر والسنوات اللاحقة له كيف أن العوامل السياسية والدعم الدولي للنظام السياسي الجديد في مصر ستجيب على أسئلة التعافي الاقتصادي واستئناف النمو.
وقد خلصت الورقة إلى أن العوامل الجيوسياسية ستكون لها الغلبة في نهاية المطاف، إذ أن الظروف الاقتصادية والأمنية المحلية والعالمية لاتشي بإمكانية زيادة استثنائية في جذب الاستثمارات إلى الاقتصاد المصري، الذي لم يكن تاريخياً جاذباً أو متلقّياً لاستثمارات أجنبية على غرار دول نامية أخرى كالبرازيل والمكسيك والصين. ومن غير المرجح أن تتضاعف الاستثمارات في فترة من الاضطراب المحلي والإقليمي، ومع تباطؤ الاقتصاد العالمي.
هنا تبزغ العوامل السياسية والمحدّدة للعديد من القرارات الاقتصادية في منطقة كالشرق الأوسط، بحيث تلتزم دول الخليج بترجمة دعمها للمسار السياسي الحالي في مصر بضخّ استثمارات، لامساعدات، على مدى السنوات المقبلة، تكفي لاستعادة معدلات النمو والتشغيل وبناء الاحتياطيات الدولارية المصرية مرة أخرى. ويظلّ السؤال حول قدرة دول الخليج على الوفاء بهذا في ظل انخفاض أسعار النفط، وهو أمر سيتحدّد في الفترة الزمنية التي ستشهد انخفاض أسعار النفط من ناحية، وبحجم الاحتياطيات – شديدة الضخامة بالفعل – التي راكمتها دول الخليج الحليفة لمصر منذ العام 2008، من ناحية أخرى.