حيدر الحسيني
يُباشر المصرف المركزي الأوروبي اليوم عملياً برنامج التيسير الكمي الجديد القاضي بشراء سندات ديون بقيمة 60 مليار يورو شهرياً، في دليل واضح على أن اقتصاد القارة العجوز لا يزال بحاجة إلى الدعم بعدما عجزت آليات الاقتصاد الحُر عن تصحيح أوضاعه الاقتصادية والمالية والنقدية، رغم تفاوت المؤشرات بين دول متعثرة أقرب إلى الإفلاس، مثل اليونان، ودول هي الأكثر تعافياً نسبياً، مثل ألمانيا.
من البرنامج الذي يمتد، مبدئياً، حتى أيلول المقبل، يبدو «المركزي» متفائلاً بأن يُنتِج ضخ السيولة الجديدة في الاقتصاد العليل بقيمة مجملة تصل إلى تريليون (ألف مليار) يورو، إلى تحفيز النمو المتهالك وتزخيم التضخم المنكمش البالغ (-0,3) في المئة في شباط الماضي، مقارنةً مع تضخم بلغت نسبته (+0,7) في المئة في الشهر نفسه من عام 2014.
بالمال المذكور، من المقرر أن يشتري «المركزي» سندات سيادية في السوق الثانوية على الأقل حتى أيلول من عام 2016، وفقاً لما أكده رئيس المصرف ماريو دراغي بعد اجتماع لجنة صانعي سياسته في قبرص الخميس الفائت، علماً أن السندات السيادية تصدرها الدول المتعثرة لتمويل خزائنها وعجوزات موازناتها العامة. وبالإضافة إلى ذلك، سيواصل المصرف برنامجاً بدأه العام الماضي ويقضي بشراء السندات المضمونة والأوراق المالية الصادرة عن القطاع الخاص شرط أن تكون مُعززة بأصول وموجودات ملموسة.
يبدو جلياً تشابه السياسة النقدية الأوروبية مع البريطانية، مقابل اختلاف واضح مع سياسة مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي. الأخير أوقف سياسة التحفيز معوّلاً على حِراك الاقتصاد ونسب نمو أفضل من تلك الأوروبية، فيما أبقى «المركزي» البريطاني الأسبوع الماضي على برنامج شراء الأصول البالغة قيمته 375 مليار جنيه استرليني، وتثبيت سعر الفائدة الأساسية عند 0,5 في المئة، تزامناً مع قرار «الأوروبي» تثبيت الفائدة عند 0,05 في المئة.
بالون لاختبار الثقة
لم يأتِ قرار «المركزي» الأوروبي بشأن برنامج شراء الأصول مفاجئاً الأسبوع الآفل، بل سبق وكُشف النقاب عنه في 22 كانون الثاني الماضي، في خطوة بدا المقصود منها جسّ نبض الأسواق وتلمّس النتائج المحتملة لسيناريو الدعم النقدي المستمر.
في ضوء «بالون الاختبار» هذا، إن جاز التعبير، تبيّن أن الآثار المتوقعة إيجابية، ما فتح الباب أمام المُضيّ قُدُماً بهذا الاتجاه، بعدما ظهرت في منطقة اليورو مؤشرات على تسارع النمو، وأكثر ما تجلّى ذلك في تجاوز مؤشرات الاستهلاك الرئيسية وتحسّن ظروف الاقتراض للشركات والأسر، وغيرها من المؤشرات، توقعات المحللين.
وجاء هذا الأداء ليُراكِم مناخاً إيجابياً كانت عزّزته بيانات معهد «يوروستات» التي أظهرت تسارع اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 0,3 في المئة فصلياً و0,9 في المئة سنوياً، في آخر فصول عام 2014، بفضل الإنفاق الاستهلاكي والنشاط الاستثماري والتجاري الأفضل نسبياً، في اتجاه إيجابي أسهمَ فيه تراجع سعر النفط. وفي إيحاء بتحسّن السياق الاقتصادي العام وتحفيزاً للثقة، رفع «المركزي» الأوروبي توقعات نمو المنطقة لهذا العام إلى 1,5 في المئة والعام المقبل إلى 1,9 في المئة، و2,1 في المئة لسنة 2017.
كما لقي عامل الثقة دعماً من تراجع بطالة منطقة اليورو (19 دولة تعتمد العملة الأوروبية الموحدة) في كانون الثاني الماضي، إلى أقل مستوى في نحو 3 سنوات عند 11,2 في المئة، بهبوط طفيف عن 11,3 في المئة في كانون الأول 2014.
المخاطر بالمرصاد
صحيح أن الجو الأوروبي العام يبدو أفضل نسبياً، أو هكذا يُراد لصانعي القرار أن يظهّروه، لكن كان غريباً في اللحظة التي أعلن فيها دراغي إطلاق برنامج الدعم الضخم، أن يتخذ من أكثر دول منطقة اليورو تضرراً، اليونان، موقفاً حازماً محابياً إلى حد كبير للموقف الألماني المتشدد حيال حكومة أثينا اليسارية، التي استطاعت انتزاع تجديد لبرنامج مساعدتها الخارجي 4 أشهر إضافية، بالرغم من السخط الألماني الحاد.
دراغي «الحريص» دوماً على إبداء «حيادية» المصرف المركزي الأوروبي في القضايا الخلافية، قال في مؤتمره الصحافي من قبرص إنه لن يُسمح لأثينا بإصدار مزيد من الديون القصيرة الأجل لحل مشكلات التمويل الحادة على المدى القصير، مع أنه أوضح في الوقت نفسه أن «المركزي» الأوروبي زاد مبلغ الإقراض للمساعدة في حالات الطوارئ، والذي سيكون بإمكان «المركزي» اليوناني أن يستفيد منه لدعم المصارف المحلية.
استبعاد دراغي أثينا من بعض التسهيلات المالية التي تساعدها على الصمود مالياً في مواجهة عجزها المالي الكبير وديونها الهائلة (320 مليار يورو ونسبتها 175 في المئة من الناتج المحلي المجمل)، استفز الحكومة اليونانية التي انبرى رئيسها أليكسيس تسيبراس، الجمعة الماضي، بعد أقل من 24 ساعة على تصريحات دراغي، إلى إبداء رغبته في مناقشة الموضوع مع رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، طالباً معه موعداً خلال الأسبوع الجاري. وهذا ما قد يفتح الباب على مجابهة بين أثينا وبروكسل في المرحلة المقبلة إذا ما بقي موقف دراغي على حزمه وتشدّده.
كما لم يكن موقف دراغي حيال قبرص التي عقد فيها مؤتمره الصحافي أفضل حالاً منه تجاه اليونان، فالبلدان بالنسبة إليه لن يستفيدا من برنامج التيسير الجديد، الأمر الذي أحدث ردّة فعل حادة من بعض الصحافيين اليونانيين الحاضرين، الذين أغضبهم دراغي صراحةً فاتّهموه بالتحيّز وعدم تقديم المساعدة الكافية لبلادهم.
في المحصّلة، إن المباشرة ببرنامج التحفيز اعتباراً من اليوم لا تعني أبداً أن المخاطر في منطقة اليورو قد انتهت، فهي لا تزال قائمة، خاصةً أن تجارب البرامج السابقة المشابهة أثبتت تكراراً أن مفاعيلها الإيجابية تظهر في المراحل الأولى من التطبيق، لتعود وتخبو تدريجاً بمرور الوقت، نظراً لافتقار الاقتصاد الأوروبي، والعالمي أيضاً، إلى عوامل مُحرّكة تتخذ صفةً مستدامة. ويعزز استبعاد اليونان وقبرص هذه المرة فتح الباب على احتمالات تضع روحية الاتحاد الأوروبي والاتحاد النقدي في مهبّ الريح عند أوّل هزّة قد يتعرّض لها أحد الاقتصادين، خصوصاً إذا ما أخفقت اليونان في ابتكار حلول ترضي شعبية حكومتها من جهة، ولا تخذل الدائنين الخارجيين، في الجهة المقابلة.