تضاعف عجز الميزان التجاري اللبناني مع الاتحاد الأوروبي أكثر من 3 مرات، من -2.6 مليار دولار في عام 2002 إلى -8.4 مليارات دولار في عام 2014! يعكس تفاقم العجز التجاري شروط التبادل المجحفة بين الطرفين غير المتكافئين، التي زادت من حدتها «اتفاقية الشراكة» التي توصف زوراً بأنها اتفاقية «تحرير التجارة». الصناعات اللبنانية لا تنافس تلك الأوروبية، فهي تلقى محاربة رسمية في «جمهورية التجار»، بدلا من الدعم كـ»مثيلاتها» الأوروبية؛ وبالرغم من البرامج العديدة الممولة من الاتحاد الأوروبي «لرفع تنافسية» الصناعات اللبنانية، إلا أن أكلاف الأخيرة «ارتفعت بدل أن تنخفض، ولأسباب داخلية»، بحسب المدير العام لجمعية الصناعيين، سعد الدين عويني.
أما في الزراعة، فالرسوم الجمركية الهزيلة، حتى قبل خفضها بموجب الاتفاقية، كانت أدنى بكثير من معدلات الدعم التي يتمتع بها الإنتاج الزراعي الأوروبي، ما يعني إغراقاً للإنتاج المحلي، زادت من حدته الاتفاقية التي أبقت على الحواجز الجمركية وغير الجمركية (محددات كمية «كوتا» وجداول زمنية للاستيراد، فضلاً عن المواصفات) التي يحمي بها الأوروبيون إنتاجهم الزراعي «الحساس»!
كتب جوزيف ستيغلتز في آذار 2006 في مجلة Far Eastern Economic Review مقالاً بعنوان «العدالة الاجتماعية والتجارة العالمية»، أكد فيه أن «مستويات الرسوم الجمركية التي تفرضها الدول الصناعية المتقدمة ضد الدول النامية هي أعلى بأربعة أضعاف من تلك الرسوم الموجهة ضد الدول المتقدمة»، وأنه «في الوقت الذي أُجبرت فيه الدول النامية على فتح أسواقها وإلغاء الدعم (للقطاعات الإنتاجية)، استمرت الدول الصناعية المتقدمة بدعم زراعاتها، وأبقت الحواجز أمام تجارة المنتجات التي هي أساسية بالنسبة إلى اقتصادات الدول النامية». يشرح ستيغلتز أن «البنى الجمركية مصممة لجعل تحرك الدول النامية صعوداً على سلّم القيمة المضافة (على المنتجات الزراعية والصناعية) أكثر صعوبة، و(لتعويق) الانتقال مثلاً من إنتاج السلع الزراعية الخام إلى إنتاج الأغذية المصنعة»، موضحاً أن الدول الصناعية، بالتوازي مع خفضها للرسوم الجمركية، «لجأت إلى استعمال الحواجز غير الجمركية كشكل جديد من الحمائية» (المذمومة بشدة في أدبيات «تحرير التجارة»)! يرى ستيغلتز أن لتحرير التجارة فوائد هائلة «حيث هناك توظيف كامل (بمعنى توافر فرص العمل، لا الاستثمار)، وحيث يكون الاقتصاد ناضجاً»، مؤكداً أن «هذه الشروط غير متوافرة في الدول النامية» التي، «بدون سياسة حمائية، لا تستطيع المنافسة في القطاعات الحديثة، وستكون محكومة بالبقاء في خانة النمو الضعيف من الاقتصاد المعولم». كمثال، يقول ستيغلتز إن «أولئك الذين ناصروا التجارة الحرة قالوا فعلياً لكوريا الجنوبية قبل 35 عاماً أن تلزم زراعة الأرز»!
التغني بـ»الفرادة اللبنانية» لا يغير شيئاً في الحقائق العنيدة، وأولاها أن لبنان من الدول النامية التي يتحدث عنها ستيغلتز، بل هو إحدى أكثر تلك الدول تخلفاً على مستوى قطاعات الإنتاج الحقيقي، الزراعي والصناعي.
بحسب «اتفاقية الشراكة» نفسها، كان يُفترض بلبنان أن يتخذ خلال فترة التخفيض التدريجي للرسوم الجمركية (2002-2015) إجراءات من شأنها تحصين الإنتاج المحلي قبل تشريع الأبواب بالكامل أمام المنافسة غير المتكافئة من الإنتاج الأوروبي، يشرح مصدر مطلع معني بالملف. على رأس الإجراءات تلك خفض أكلاف الإنتاج المحلي بنحو 30%، وأهم تلك الأكلاف أكلاف الطاقة والنقل، حيث كان يُفترض خفض سعر الكهرباء بالتحول إلى استعمال الغاز لإنتاجها، وبناء شبكة نقل بري كفؤة تتضمن إنشاء سكة حديد من بيروت إلى البقاع مثلاً، فضلاً عن إعفاء مدخلات الإنتاج (آلات، أسمدة، مواد أولية) من الرسوم، يشرح المصدر، مؤكداً أن «أياً من تلك الإجراءات لم يُتخذ». وقد يكون أهم الإجراءات التي كان من الواجب اتخاذها ضمان «تنافسية» الاقتصاد، ما يعني تفكيك البنى الاحتكارية التي تكبل الاقتصاد وتخنق أي إمكانية للمنافسة.
يضحك وزير الصناعة حسين الحاج حسن طويلاً لدى سؤاله عن الإجراءات المتخذة لرفع تنافسية الصناعات اللبنانية منذ توقيع «اتفاقية الشراكة» عام 2002. الحديث عن الإجراءات المذكورة «نكتة»، يقول الحاج حسن، مؤكداً أنه «لم يتحقق شيء منها؛ أو ربما تحقق النزر اليسير فقط». يصف الحاج حسن تشريع الأبواب أمام الصادرات الأوروبية في ظل الوضع الراهن بأنه «اجتياح جديد»، إذ تسوء حالة الصناعة باطراد لأن الدولة «لم تقم بإجراءات كافية بالحد الأدنى لتأهيل صناعتها لتنافس في ظل تفاقيات كاتفاقية التيسير العربية واتفاقية الشراكة الأوروبية». لن تؤثر الأخيرة كثيراً في صناعتنا لأننا «لا ننافس الأوروبيين في غالبية صناعاتهم؛ لكن المشكلة في خسارة الدولة لجزء مهم من الإيرادات (الجمركية)»، يقول الحاج حسن، شارحاً أن «الضرر حصل، والنقاش الآن هو في كيفية الحد منه» عبر إجراءات كفرض «رسوم نوعية» على استهلاك على الواردات. وإن كانت الرسوم تلك مخالفة ظاهرياً لمبدأ «تحرير التجارة»، فالواقع أن «الكل يضحك على الكل، والجميع يفرض إجراءات حمائية»، يؤكد الحاج حسن. ولدى سؤاله عن المنطق من خفض الرسوم الجمركية حتى قبل توقيع اتفاقية الشراكة، يجيب الحاج حسن أن الدول «يلي بتفهم» ترفع الرسوم الجمركية قبل عقد اتفاقيات كهذه، كي تحسن شروطها التفاوضية، شارحاً أن غالبية الصناعات المحلية تضررت حتى قبل «اتفاقية الشراكة» بسبب «اتفاقية التيسير» لتحرير التجارة العربية البينية، وأن أبرز الصناعات المتضررة كانت صناعات السيراميك والجلود والنسيج والزجاج. «لو لم تكن بعض الصناعات محمية، كصناعة الترابة والكابلات والألومنيوم، لكانت قد انتهت»، يؤكد الحاج حسن، قائلاً إنه ذاهب باتجاه فرض إجراءات حمائية على الصناعات كافة، كفرض رسوم نوعية وإجازات استيراد مسبقة، وأنه بدأ تطبيق هذه الإجراءات فعلياً على صناعات الترابة ورقائق البطاطا.
خلافاً للاعتقاد السائد، فـ»اتفاقية الشراكة» نفسها تبيح، عملاً بالفقرة 25 منها، «إذا كانت أي سلعة لأي من الطرفين تُستورد بكميات متزايدة وبشكل يسبب أو يهدد بالتسبب بضرر فادح للمنتجين المحليين، يكون الطرف (المتضرر) حراً بتعليق التزاماته (ذات الصلة بالاتفاقية) جزئياً أو كلياً»، بحسب إجابة بعثة الاتحاد الأوروبي في بيروت على أسئلة «الأخبار»، لكن في الواقع، قد يكون لكلمة «إغراق» وقع الموسيقى على آذان المستوردين، أصحاب الوكالات التجارية الحصرية؛ إذ يبدو حلماً بعيد المنال أن يعمد هؤلاء، أصحاب الأمر والنهي في «جمهورية التجار»، إلى الاستفادة من الفقرة المذكورة من الاتفاقية؛ كما أنه من المستحيل أن يعمد هؤلاء إلى تفكيك احتكاراتهم بأيديهم، عملاً ببنود الاتفاقية التي تشدد على ضمان تنافسية الاقتصاد، والأرجح أن يدفعوا لتطبيق ما يناسبهم مما ورد في الاتفاقية في هذا السياق، ألا وهو «تفكيك الاحتكارات الحكومية» فقط (وهم بدأوا بذلك بالفعل)!