تريسي ألووي ومايكل ماكينزي
عشية الأزمة المالية، اشتمل مكتب الرقابة على السوق في الجهاز التنظيمي للأوراق المالية الأمريكية على أكثر من 100 موظف مكلّف برصد الأسهم والخيارات، وشخصين لمراقبة السندات البلدية البالغ قيمتها 3.5 تريليون دولار، ولم يخصص أحدا لمراقبة سوق سندات الشركات التي تبلغ قيمتها 5.4 تريليون دولار، حيث تبيع آلاف الشركات سنداتها.
في حين أن أمورا كثيرة حدثت في الأسواق خلال السنوات السبع التي تلت ذلك، لم يتغير الكثير في وحدة لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية. أكثر من 100 شخص من العاملين في لجنة الأوراق المالية لا يزالون يراقبون الأسهم الأمريكية، وقفز عدد الأشخاص المخصصين لرصد سندات البلدية، البالغ قيمتها الآن 3.7 تريليون دولار إلى ستة. لكن في عالم سندات الشركات، حيث ارتفع حجم السوق بنسبة 42 في المائة لتصل قيمتها إلى 7.7 تريليون دولار، عدد العاملين المخصصين من لجنة الأوراق المالية بالكاد تزحزح: موظف واحد يخصص نصف وقته لذلك.
بالنسبة لدان جالاجر، وهو واحد من بين خمسة مفوضين في اللجنة، الوضع الحالي يعتبر مذهلا. يقول: “كيف يمكن أن نكون في لجنة الأوراق المالية والبورصات حيث نجلس على ما قيمته تريليونات الدولارات من سندات الشركات وليس لدينا أي موظف مخصص لذلك؟ السبب هو أن الأداء جيد ونحن في سوق صاعدة”.
وفي حين أن سوق سندات الشركات لديها تاريخ طويل من سلوك الغرب المتوحش، إلا أنها نادرا ما استحوذت على اهتمام الأجهزة التنظيمية التي تعاني نقصا في الموارد. هذا الوضع آخذ في التغيير وسط قلق متزايد حول مزيج من التقييمات المبالغ فيها للسندات وهيكل السوق الذي عفا عليه الزمن.
مقابلات أجرتها “فاينانشيال تايمز” مع عشرات من المصرفيين ومديري المحافظ والمتداولين تكشف عن وجود سوق سندات تتميز بتعتيم مزمن، ومهيمن عليها من قبل شركات إدارة الأصول العملاقة، التي زاد نفوذها بشكل كبير منذ الأزمة المالية. ويخشى بعض اللاعبين في السوق أيضا أن الأسس الهيكلية لسوق السندات – خاصة كمية “السيولة” المتاحة – لم تواكب النمو السريع في السنوات الأخيرة. ويمكن لنقاط الضعف هذه أن تتعرى إذا ما قرر المستثمرون، الذين هم متخمون من سندات الشركات لسنوات، التوجه نحو باب الخروج.
ويقول جالاجر: “صناع السياسات لا يهتمون بالقضايا إلا إذا كانت هناك أزمة”. ويضيف: “في سوق الدخل الثابت للشركات كانت لدينا إصدارات قياسية وهبوط حقيقي في السيولة. هنا مجال حيث يمكن للجنة الأوراق المالية والبورصات أن تلعب دورا مباشرا فيما أرى أنه فقاعة”.
بعد سنوات من أسعار الفائدة المتدنية، كانت الشركات الأمريكية تتمتع بفورة من الاقتراض. والمستثمرون، المتعطشون للعوائد، كانوا مشترين تواقين للسندات. وأصدرت الشركات ما قيمته 1.43 تريليون دولار من السندات في الولايات المتحدة العام الماضي، أي ما نسبته 27 في المائة أكثر مما كان قد بيع في عام 2007 في ذروة فقاعة الائتمان.
وتشير تقديرات مصرف التسويات الدولية إلى أن مقتنيات السندات لدى أكبر 20 شركة لإدارة الأصول قفزت بواقع أربعة تريليونات دولار بين عامي 2008 و2012، وتزايدت لتمثل 40 في المائة من محافظها، المجمعة، البالغ قيمتها 23.4 تريليون دولار. وقد تدفق على الأقل 766 مليار دولار إلى صناديق السندات الأمريكية وحدها منذ عام 2008، وذلك وفقا لبيانات آي بي إف آر، لتفوق بكثير كل فئات الأصول الأخرى في الفترة نفسها.
وكانت الشهية لسندات الشركات واضحة تماما في صيف عام 2013، عندما قررت فيرايزون، التي كانت تسعى إلى المساعدة في تمويل استحواذ بقيمة 130 مليار دولار، بيع ما قيمته 49 مليار من السندات في أكبر طرح سندات شركات على الإطلاق.
وبالنسبة للمستثمرين، كان تأمين جزء من طفرة السندات يحتل مكانة عالية لديهم. عند نحو 50 مليار دولار، حجم الاكتتاب فاق بكثير قيمة سندات الشركات الأمريكية الأقدم، البالغة 18.2 مليار، التي كان يتم تداولها كل يوم في أيام التداول الطبيعية. وجذبت فيرايزون ما تجاوزت قيمته 100 مليار دولار من طلبات الشراء من المساهمين التواقين، في حين تدافع مديرو المحافظ الكبيرة والصغيرة للحصول على حصة. ومع ذلك، لم يحصل كل شخص على حصة.
بيمكو وبلاك روك، وهما من أكبر شركات إدارة الأصول في العالم، اقتنصتا 13 مليار دولار من الصفقة التي تبلغ قيمتها 49 مليارا، وفقا لأشخاص مطلعين على عملية البيع. ولم تستجب بيمكو لطلب بالتعليق على الأمر، بينما امتنعت بلاك روك عن التعليق. وتذمر مديرو الصناديق الصغيرة لكونهم قد استبعدوا من عملية السندات المربحة. وقدر محللون في وقت لاحق أن المستثمرين كسبوا مبالغ وصلت إلى ملياري دولار من الأرباح على السندات خلال 24 ساعة فقط مع ارتفاع أسعار سندات فيرايزون الجديدة بعد أن بدأ التداول. وبالنسبة لكثير من مديري الصناديق، الطلب الهائل على السندات يعني أن السندات يمكن أن يتم بيعها بفارق أكثر تشددا بكثير لصغار المساهمين، الأمر الذي من شأنه أن يخفض تكاليف تمويل فيرايزون.
وقال كثير من كبار المصرفيين، الذين اشترطوا عدم الكشف عن هويتهم، إن أكبر مديري السندات يمارسون نفوذا غير متناسب على حجم وسعر بيع السندات الجديدة. العملية السرية التي عن طريقها يتم تسعير سندات الشركات الجديدة، ومن ثم توزع على المساهمين، تعني أن فرص السلوك المشكوك فيه – وإن لم يكن بالضرورة غير قانوني – موجودة، كما يقول المصرفيون.
صناديق السندات الكبيرة التي تتداول مع أحد المصارف في السوق الثانوية تعد أكثر عرضة لتلقي مخصصات أكبر لصفقات سندات جديدة يتم ضمانها من قبل الشركة – وهذه حالة كلاسيكية لسلوك المقايضة، وفقا للمصرفيين، مضيفين أن صناديق السندات الأقوى هي أيضا قادرة على تغيير سعر صفقة السندات، ما يدفع في كثير من الأحيان إلى سندات جديدة يتم بيعها بفوارق أسعار أوسع، أو أكثر ربحية، بالنسبة للمستثمرين.
وأشار متداول سندات سابق في أحد المصارف إلى مواصلة تتبع العملاء الذين يقدمون معظم “الخدمات” للشركة لضمان مخصصات جيدة في صفقات جديدة مرغوب فيها. وقال مصرفي كبير سابق في أحد المصارف الأمريكية المعروفة إن أكثر من ثلثي إيرادات تداول السندات للشركة تم ربطها لأعمال ضمان الاكتتاب التي تتولاها الشركة. ووصف آخرون منافسيهم بأنهم يوجدون طلبات شراء وهمية للحصول على مزيد من السندات التي يمكن بعد ذلك أن تعطى لعملائهم الكبار.
مصرفي سابق متخصص في القروض الجماعية في مصرف أمريكي كبير وصف كيف أن أحد مديري المبيعات دفعه لتغيير تسعير طرح سندات لإرضاء عميل قوي من جانب الشراء: “معنى ذلك أن عليّ الكذب أساسا للجهة المصدرة للسندات وأن أقول لها إنها لا تستطيع الحصول على صفقة أفضل. ذات مرة، اضطررتُ حتى إلى تعديل القيود على دفتر الطلبيات الذي طلبوا أن يبدو وكأنه صفقة عليها طلب كبير لكن هذا الطلب كان وهميا”.
إذا ما انتشر مثل هذا السلوك، فإنه لن يزيد فقط تكاليف اقتراض الآلاف من الشركات من خلال دفعها لبيع سنداتها من خلال فروق أوسع، ولكن يمكن أيضا أن يقوض صدقية تقييمات الأوراق المالية الناتجة عن ذلك. وسوء تسعير صفقات السندات “الساخنة” عند صدورها يعني أنها تكتسب بسرعة قيمة في السوق الثانوية، ما يؤدي إلى أن تكسب أرباحا على الورق أكبر لأولئك الذين اشتروها أولا. واستحواذ عدد قليل من صناديق السندات الرئيسة على مساحات كبيرة من إصدار جديد واحد يمكن أيضا أن يستحدث ندرة إضافية، ما يضغط على الأسعار إلى أعلى ويسمح للاعبين الكبار بتسجيل مكاسب فورية.
يقول ديفيد تشويل، وهو مدير محفظة في سكوير وان بانك Square 1 Bank، إن المصرفيين “بدلا من ذلك يعطون حصصهم إلى اللاعبين الكبار”. ولأن قواعد مخصصات السندات ليست منقوشة في الحجر، فإن معظم المصرفيين ومديري الصناديق لا يعتقدون أنهم يفعلون أي شيء غير قانوني، على الرغم من وجود بعض الشكوك حول الممارسة التي يعتبرون أنها فن أكثر منها علم.
ويصف المتداول السابق أعمال تخصيص السندات بأنها “كابوس تنظيمي”. ويقول آخر إنه لم يكن من المستغرب أن “أكبر كائنات الغوريلا على الطاولة ستمارس بعض التأثير” حول التسعير. وحذر آخرون من أن المصارف تتصرف بحصافة. فمن خلال ضمان مشاركة أكبر صناديق السندات، فهي تخفض من مخاطرها وبالتالي لا تَعْلق بسندات غير مبيعة.
في العام الماضي، أرسلت لجنة الأوراق المالية طلبات للحصول على معلومات حول الكيفية التي يتم بها تخصيص سندات جديدة إلى قائمة من المصارف، بما في ذلك جولدمان ساكس وسيتي جروب. وتدرس هيئة تنظيم الصناعة المالية أيضا الكيفية التي يتم بها تنفيذ عروض السندات.
وفي الوقت الذي تتعرض فيه آخر معاقل الغموض في السوق إلى مزيد من التدقيق، فإن الضوء يسلَّط أيضا على دور أكبر شركات إدارة الأصول. ويقول المتداول السابق: “يعتبر هذا سلوكا قديما. ما يتغير بشكل كبير هو صعود جانب الشراء، لقد أصبحوا كبارا جدا وبحاجة إلى نشر تلك الأصول. الطريقة الوحيدة لنشر تلك الأصول هي من خلال سوق الإصدارات الجديدة [لسندات الشركات]. يمكن للعبة أن تستمر حتى لا يعود بوسعها الاستمرار”.
وكانت ست سنوات من أسعار الفائدة المنخفضة للغاية نعمة ونقمة على حد سواء لأكبر مديري الصناديق، مثل بلاك روك وبيمكو وفانجارد، التي شهدت أصولها تحت الإدارة تتضخم من حيث الحجم، بينما عالم الاستثمارات المدر للعوائد يتقلص.
يقول جون بيكيت، من مجموعة لويدز المصرفية: “الصناديق الكبيرة استجمعت زخمها الخاص”. ويضيف: “كلما ازداد حجمها أصبح من السهل عليها البيع للمستثمرين، لكن بمجرد وصولها إلى كتلة حرجة فإنها تعاني في سبيل إدارة حركة النقد لديها”.
وكانت إدارة المحافظ الكبيرة للسندات واضحة نسبيا خلال السنوات السبع الماضية، لكن يمكن أن تصبح معقدة في حال فقد قطاع سندات الشركات بريقه.
ومعظم المصرفيين ومديري الصناديق يتفقون على أن القدرة على شراء أو بيع سندات الشركات الأقدم، دون أن يكون لسعرها أي تأثير في السوق الثانوية، تدهورت في السنوات التي تلت الأزمة، على الرغم من أن شركات الإدارة الأصغر يغلب عليها أن تشعر بهذا النقص في السيولة بشكل أكثر حدة.
ويقول فريد بونزو، مؤسس شركة جريسبارك بارتنر الاستشارية: “إنها مثل شراء البقالة في الاتحاد السوفياتي. أنا متأكد من أن بلاك روك على ما يرام عندما يتعلق الأمر بمصادر السيولة”.
ويلقي بعضهم باللوم في انخفاض السيولة على القوانين التنظيمية ما بعد الأزمة التي حدت من قدرة المصارف على تداول السندات، إذ انخفضت حيازاتها ذات العائد الثابت بنسبة 79 في المائة عن ذروتها البالغة 235 مليار دولار في 2007. وآخرون يلومون بيئة ما بعد الأزمة الاقتصادية التي شهدت شروع المصارف المركزية في برامج خاصة بها لشراء السندات – ما شجع المستثمرين على شراء أي أوراق مالية يمكن أن يجدوها ثم التمسك بها بإحكام.
ويقول أنتوني بيروتا، رئيس قسم أبحاث الدخل الثابت في تاب، إن شركات إدارة الأصول الكبيرة “هي صاحبة عروض التسعير في السوق”، وهذا يعني أن هذه الصناديق من الناحية العملية هي التي تحدد أسعار السندات. وإذا تحولت دورة الائتمان “ستتحول التدفقات الداخلة إلى تدفقات خارجة وستحصل على طلبات استرداد ولن يعود هؤلاء الرجال أصحاب عروض. بل سيكونون هم الباعة”.
في لجنة الأوراق المالية والبورصة، يضغط جالاجر من أجل أن تعمل السوق على تصحيح نفسها قبل أن يضطر المنظمون، مثل لجنة الأوراق المالية، إلى التدخل. وفي حين أن المصرفيين من جانب البيع وشركات إدارة الأصول من جانب الشراء تعقد اجتماعات متكررة لبحث الخيارات الرامية إلى تحسين السوق المزدهرة – كل شيء من توحيد معايير إصدار سندات الشركات إلى تشجيع أشكال جديدة من التداول – إلا أن التقدم بطيء.
يقول جالاجر: “من جانبي أنا أفضل حلول السوق الخاصة وليس فرض القواعد من جانب لجنة الأوراق المالية والبورصات إذا كان بإمكاننا تجنب ذلك. لكنني لا أرى بالضرورة أن السوق في حالة تطور. إذا كان هذا هو ما يحدث، فإنني أرى فعلا أننا بحاجة إلى أن نلعب دورا من حيث إحضار بعض الشفافية والمزيد من ضوء الشمس إلى هذه العملية”.