ميان ريدج
تشكل الحوالات المالية أحد أهم مصادر الدخل لعدد كبير من الدول النامية، لدرجة أن تحقيق النمو الاقتصادي في كثير منها قد يكون مرهوناً بحجم تلك الحوالات، ففي باكستان تزيد على احتياطي النقد الاجنبي، وفي بنغلادش تعادل %80 من دخل الأسر المستقبلة لها، وفي الفلبين تحقق فائضاً في الحساب الجاري، حتى أن الهند تعد أكبر مستقبل لها.
وتزداد الحوالات المالية عندما تضرب تلك الدول الكوارث الطبيعية كالفيضانات والأعاصير، كما تزداد أيضا عندما تواجه الدول التي ترسل منها متاعب اقتصادية، حتى ان بعض مسؤولي الدول النامية يعتبرونها محركا اساسيا لاقتصاد بلادهم، فتبقيه نشطاً، بل وتمنحه ثقة كبيرة وتحسن من الاحتياطي بشكل ملحوظ، وبحسب رأي كثير من الخبراء الاقتصاديين، فالحوالات هي من اهم وسائل مكافحة الفقر.
ولا يبالغ بعض الخبراء إن قالوا: لو كان للمهاجرين دولتهم الخاصة بهم، لبلغ تعدادها السكاني 181 مليون نسمة، أي سادس أكبر بلد في العالم، وسيكون لديها سادس أكبر ناتج محلي إجمالي قوامه 2.6 تريليون دولار.
أخرج عبدالحليم ظرفا من الجيب الداخلي لسترته المصنوعة من الجلد الصناعي ووضعه برفق على الكاونتر في محل الصرافة «إم تي بي»، للتحويلات المالية، الواقع في وايت تشابل، في ايست ايند بلندن، وفي غضون ساعات، سوف يستلم والده، مربي الدواجن الذي يعيش في منطقة نائية شمالي بنغلادش، مبلغ الـ500 جنيه إسترليني التي أرسلها عبدالحليم، البالغ من العمر 30 عاماً، ويقول بتهذيب «إنه يحتاجها بشدة».
شهر بعد شهر، يرسل حليم الى موطنه مبلغا من المال يعادل راتب شهر، يكسبها من العمل 20 ساعة أسبوعيا في مطبخ أحد المطاعم في نايتسبريدج. يقول إنه يرغب في كسب المزيد من الأموال، لكن شروط تأشيرته تتطلب حضوره الى كلية في شمالي لندن، حيث يدرس حليم ادارة الأعمال رغم عدم معرفته باللغة الإنكليزية.
الأموال التي يرسلها المهاجرون الى أسرهم في البلدان النامية هي جزء يزداد أهمية في الاقتصاد العالمي. فالتحويلات المالية التي ترسل معظمها في حزم من 300 جنيه إسترليني أو أقل، بلغت 435 مليار جنيه إسترليني في عام 2014، وفق البنك الدولي، بزيادة نسبتها %5 مقارنة بالعام السابق. وزادت التحويلات المالية الى بلدان العالم النامي بأكثر من الضعف منذ عام 2003، عندما بدأ البنك الدولي يحسبها بشكل صحيح.
التحويلات المالية تزيد ثلاث مرات عن حجم مساعدات التنمية الخارجية العالمية، على الرغم من أنه نادرا ما يتم ذكرها في الخطاب السياسي. خلال معظم فترات العقد الماضي، كانت تلك التحويلات تتدفق بشكل أكثر ثباتاً واستقراراً من الاستثمارات الأجنبية المباشرة الى العالم النامي. وفي الهند، التي تعتبر أكبر مستقبل للحوالات المالية، تزيد في حجمها عن صادرات تكنولوجيا المعلومات.
ويشير ديليب راتا، رئيس وحدة الحوالات المالية في البنك الدولي، الى أنه لو كان المهاجرون من البلدان النامية لهم دولتهم الخاصة بهم، حيث يبلغ تعدادها السكاني 181 مليون نسمة، فانها ستكون سادس أكبر بلد في العالم، وسيكون لديها سادس أكبر ناتج محلي اجمالي، قوامه 2.6 تريليون دولار. بالطبع، لا يتم تحويل معظم تلك السيولة، لكنها تبقى مقياساً ودلالة على النفوذ الاقتصادي للمهاجرين من أفقر بلدان العالم.
ويقول الرئيس الأفغاني، أشرف غاني، إنه يبقي عينيه على الحوالات المالية التي تساهم في بناء بلاده. ويريد لبلاده أن تشجع وتنظم سفر العمالة إلى دول الخليج وشرق آسيا التي تتحول بلدانها الى «دول مستوردة للعمالة».
ويضيف: «الحوالات المالية ستصبح موضوعا مهما جدا، مسألة تزداد أهمية. نحن نريد أن ننظم الحوالات المالية التي تتدفق الى الاقتصاد. الحوالات المالية كالمحرك. تأتينا حوالات مالية بقيمة 500 مليون دولار من ايران وحدها. انها حقا تحدث فرقا».
ربما أهم ما يميز الحوالات المالية الضخمة والمتنامية قدرتها على الصمود أمام الاضطرابات الاقتصادية. ولاحظ خبراء الاقتصاد أن الحوالات المالية تميل الى الارتفاع في الأوقات الاقتصادية الصعبة في البلدان التي ترسل اليها، كما أنها تزيد عندما تكون البلدان التي ترسل منها في متاعب اقتصادية، ففي عام 2009، وفي الوقت الذي تراجعت فيه الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتدفقات المحافظ الاستثمارية قرابة %40، انخفضت الحوالات المالية بنسبة لا تزيد عن %5.
وكما يقول رالف شامي من صندوق النقد الدولي: كنا نعرف أن الحوالات المالية أقل تقلبا من أشكال التدفقات المالية الأخرى، لكن تلك الأزمة كانت بمنزلة تجربة أولى بالنسبة لنا.
المرونة التي تتمتع بها الحوالات المالية تعود الى سبب واحد بسيط: فخلافا لأشكال حركة الأموال الأخرى العابرة للحدود، يحكم المد والجزر في حركة الحوالات المالية الايثار، اذ حاول المهاجرون في عام 2009، أن يستوعبوا التراجع في مداخيلهم من خلال الاعتماد على مدخراتهم وتقليص الاستهلاك وتقاسم السكن مع آخرين، على حد قول راتا.
الدافع للحفاظ على استقرار الحوالات المالية من خلال التضحيات الشخصية ثبتت صحتها مع حليم، فهو يتشارك غرفته التي يقيم فيها في شقة بمنطقة ابتون شرقي لندن مع صديق له، وهي التي تكلفه 200 جنيه استرليني شهريا. واذا ما انخفضت ساعات عمله، أول شيء يقوم به، كما يقول، هو وضع فراش آخر في غرفته ليتقاسم الايجار مع آخرين. أما أن يقلص من المبلغ الذي يرسله الى بلاده فهو أمر غير وارد على الاطلاق. «يمكنك دائما أن تأكل أقل».
الدافع الخيري وراء الحوالات المالية يتضح أيضا في الطريقة التي تحول فيها الأموال الى بلدان العالم النامي عندما تضرب تلك الدول الكوارث الطبيعية. فعندما ضرب الفلبين اعصار هائل في عام 2013، زادت الحوالات المالية بنسبة %8.5 في تلك السنة، وفق البنك الدولي. وفي باكستان، يمكن رصد الزيادة والنقصان في حجم الحوالات وفق مستويات الفيضانات السنوية والتي غالبا ما تكون مدمرة.
خفض قيمة العملة، وهي ظاهرة مألوفة في الكثير من الأسواق الناشئة حاليا، تزيد أيضا من قيمة الحوالات المالية. وتسجل الحوالات المالية في الحسابات الجارية للدول المستقبلة لها، والتي تعمل غالبا على تعويض العجز في ميزان المدفوعات. كما أن لها تأثيرا مفيدا على ميزان المدفوعات يفوق أشكال التدفقات النقدية الأخرى، لأنها لا تحمل أي فائدة عليها ولا يجب سدادها.
والعكس صحيح أيضا، فلنأخذ الفلبين مثالا، حيث زادت الحوالات المالية بنسبة %6.3 في النصف الأول من عام 2014، الأمر الذي أدى الى تحقيق فائض في ميزان الحساب الجاري، أو باكستان التي تعد واحدة من ضمن 20 بلدا غريبا كون الحوالات المالية فيها أكبر من احتياطيات النقد الأجنبي. ففي هذا البلد تغطي الحوالات المالية نصف الواردات تقريبا، ومن المتوقع أن تكون حققت نموا في 2014 بنسبة %16.6.
وفي بنغلاديش، ثامن أكبر دولة من حيث حجم استقبالها للحوالات المالية، يزيد متوسط الحوالات المالية للأسر المستقبلة لها مرتين عن نصيب الفرد من الدخل، ويعادل %80 تقريبا من دخل الأسر المستقبلة للحوالات المالية.
وكما يقول أبو المعال عبد المحيط، وزير المالية في بنغلاديش: الحوالات المالية تمنح اقتصادنا ثقة كبيرة، وتحسن من احتياطياتنا بشكل كبير.
ويشير إلى أن معظم الحوالات المالية تنفق على الاستهلاك، مضيفا أنها تبقي الاقتصاد نشطا، فهناك الكثير من الأخذ والعطاء، أنه لشعور جيد أن يكون لدينا 9 ملايين بنغلادشي يعملون في الخارج.
وفي بلدان مثل بنغلادش، حيث الحوالات المالية كبيرة جدا، تدرس أرقامها جيدا من قبل وكالات التصنيف. فقد وجد تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نشر في 2009 أن وكالات التصنيف الائتماني تأخذ الحوالات المالية بالحسبان عندما تعد تصنيفاتها السيادية.
ولكن قياس تأثير الحوالات المالية على الاقتصادات التي تدخلها يمكن أن يكون عملاً شائكاً، إذ لم تجد دراسات عدة تأثيرا واضحا لها على الناتج المحلي الاجمالي، وقد يكون سبب ذلك أن النمو المسجّل خلال فترة العقد الماضي أو نحو ذلك ربما يكون شيئاً من الوهم، بفضل تحسن عمليات الابلاغ من قبل شركات مثل ويسترن يونيون منذ 2001. كما أن زيادة الأمن في المطارات يعنى أن المهاجرين سيخفون أموالا أقل في جواربهم.
ديفيد ماكنزي الخبير الاقتصادي في البنك الدولي وجد أن ما يصل الى %79 من نمو الحوالات المالية الواضحة المرسلة الى البلدان النامية خلال الفترة من 1990 الى 2010 يعود الى التغيير في عمليات القياس، وأن الخمس فقط يشكل نموا حقيقيا في الحوالات. كما يشير، أيضاً، الى البيانات غير المكتملة وغير المنتظمة والأساليب الاحصائية على وجه الخصوص غير قادرة على الأرجح على رصد العلاقة مع النمو، حتى عند وجود هذا النمو .
ولكن ما هو أكيد بشأن الحوالات المالية هو أنها تعمل على تقليص الفقر. فكما يقول ماكينزي «الحوالات هي أكبر طريقة لمكافحة الفقر، أكبر من المساعدات الخارجية أو عمليات التمويل الصغير أو أي شيء آخر».
في المكسيك وسريلانكا، أظهرت الأبحاث أن الأسر التي تتلقى حوالات خارجية تتمتع بمعدلات مواليد أعلى. وفي السلفادور، تبين أن الأطفال في العائلات التي تتلقى حوالات مالية أقل عرضة للتسرب من المدارس.
ولكن المرونة التي تتمتع بها الحوالات المالية لا تجعل منها بمعزل تام عما يدور في العالم. فالمشاعر المعادية للهجرة في أنحاء العالم قلّصت من نمو الحوالات على فترات خلال العامين الماضيين.
وكما يقول إيان غولدن البروفسور في العولمة والتنمية مدير كلية أكسفورد مارتن في جامعة أكسفورد «من سخريات القدر أنه في عصر التواصل العالمي ويادة التدفقات العابرة للحدود، تتحرك العمالة وبشكل كبير في الاتجاه المعاكس».
مشاكل روسيا الحالية، من قبيل انخفاض أسعار النفط وضعف الروبل والعقوبات الغربية، جعلت الكثير من المهاجرين من آسيا الوسطي في وضع ضعيف. وفي طاجيكستان، تمثل الحوالات المالية قرابة نصف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد وجميعها تقريبا تأتي من روسيا.
ولكن هناك عاملين أساسيين سيضمنان نمو الحوالات المالية. الأول يتمثل في تكلفة ارسال الحوالات المالية التي تتراجع كل عام، إذ تراجع متوسط تحويل مبلغ 200 دولار من %9.8 في عام 2008 الى %7.9 في الربع الثالث من عام 2014، إذ يعمل نمو الهواتف النقالة وتكنولوجيا الإنترنت على تخفيض التكاليف أكثر فأكثر. ويقدر راتا بأنه عند تخفيض تكلفة الحوالة بنسبة %1 فإن ذلك من شأنه أن يوفر للمهاجرين 30 مليار دولار سنوياً، أي قرابة حجم ميزانية المساعدات الخارجية للولايات المتحدة الأميركية.
العامل الثاني والأكثر أهمية يتمثل في أنه بعيداً عن النفعية السياسية والخطاب المعادي للمهاجرين، فإن الدول المتقدمة بحاجة الى المهاجرين من الدول النامية، وستظل بحاجة اليهم الى أجل غير مسمى.