بقلم رولان خاطر
أثبت لبنان على مرّ التاريخ أنه كحبة القمح، يموت، لينبعث من جديد.. ثقافته منذ التاريخ انطلقت من مبادئ الكنيسة السريانية تاريخيًا وطقسيًا، إيمانه، من بخور الكنيسة الكاثوليكية، خبز وخمر ممزوجة بالدماء أحيت الأجيال. لغةُ شعب لبنان رَفْضُ الخضوع والمقاومة، من الرماد تنبعث الروح، شعب لا يستسلم، لا يرضى بالذمية، والموت بالنسبة اليه قيامة. وللأرز، ولثورته، ولشهداء ثورة الأرز، التسبيح والبركات.
بطاركة سقطوا مصلوبين ومحروقين في سبيل مجد واسم لبنان، ولتحقيق الاستقلال، من يانوح إلى ميفوق ومنها إلى كفيفان. شباب أبطال قدموا ذاتهم قرباناً على مذبح القضية منذ بدأت أشواك الاضطهاد تحيط هذه القضية، ومحاولات إلغائها، من بلاط الدولة العثمانية، وصولاً إلى بلاط بيت الأسد في دمشق، إلى بلاط الإمبراطورية الفارسية. خضعت كل مؤسسات الدولة، ومعها خضع الاستقلال.
مراحل مرّة طوّقت حلم تحقيق الاستقلال. في العام 1840 انهار حلف الموارنة والدروز. في عام 1860 تم استحداث متصرفية جبل لبنان، على عهد البطريرك بولس مسعد. نظام القائماقميتين لم يلغي مجازر 1860. فوقع الشرخ الكبير. في العام 1920، ميلاد “لبنان الكبير”. “مجد لبنان” أعطي للبطريرك الحويك. في العام 1926 إقرار الدستور اللبناني وانتخاب شارل دباس رئيسًا.
في العام 1943 وقعت أحداث بشامون، فكانت شرارة “الاستقلال الأول”. إنجاز كبير حققته الإرادة المسيحية – الإسلامية، جناحا لبنان التقيا. مسلم ومسيحي، فولد “الميثاق الوطني اللبناني” الذي ضمن أن يكون رئيس الجمهورية مارونيًا. فكان لبنان وطناً نهائياً لكلِّ أبنائه.
“التفاهم الوطني” لم يدم طويلاً، في وطن تحيطه أوطان، يحكمها نظام العسكر، و”حذاء عسكرها” يدوس كرامة شعبها. هذا الإنجاز، سرعان ما تعرّض للاختلال في العام 1958، بعد ولادة ما عُرف بـ”الجمهورية العربية المتحدة”، قوامها دمشق والقاهرة، فانطلقت داخلياً أعمال العنف لتضع شرعية الكيان اللبناني في خطر.
أحداث 1967، و1969، 1973، من الصدام بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية، المدعومة من نظام الأسد، وصولا إلى “اتفاقية القاهرة” التي صادرت السيادة والقرار، بات الاستقلال ممشوحاً بسواد الفلتان الأمني والسياسي، ما أوصل بلاد الأرز إلى “الحرب اللبنانية”.
قرار مسيحيي لبنان كان حاسماً: “لا إسقاط لشرعية الكيان اللبناني، لا لإلحاق لبنان بنظام البعث السوري، ولبنان لن يكون وطناً بديلاً للفلسطينيين، ولن تمرّ طريق فلسطين في جونية، فكانت “المقاومة اللبنانية المسيحية”، تصميمٌ وعشقٌ في السير على درب الجلجلة، للمحافظة على الاستقلال”.
في 13 نيسان 1975، اندلعت “الحرب اللبنانية”.
في العام 1976، دخلت “قوات حفظ السلام” العربية لحماية سيادة لبنان، فحوّلها حافظ الأسد إلى جيش يحتّل لبنان. وبدأ نظام الأسد عمليات الذبح والتنكيل بالمسيحيين، بعدما أرهب “الأحرار” لدى المسلمين.
عام 1978، طبعته حرب المئة يوم. ومن الـ1976 حتى العام 1982، محطات دموية طُبعت في وجدان المسيحيين، وفي ذاكرة الوطن. حروب، ودمار، ومعارك، كتب خلالها المسيحيون حروف بطولاتهم من ذهب، فشكلت بداية الطريق نحو الاستقلال. ومن أبرز العلامات، وصول قائد “القوات اللبنانية” آنذاك الشيخ بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية، لكن حلم الـ10452 لم يكتمل، فسقط البشير شهيداً.
بعد موت بشير، بدا واضحاً أن عملية تحقيق الاستقلال، والعيش الحرّ، والحفاظ على الكيان، مشروع طريقه مملوءة بالدماء والشهادة، فلبّى المسيحيون الدعوة إلى القتال. بدأت حرب الجبل. حاولت المقاومة اللبنانية قدر الإمكان رسم خطوط حمراء، لحماية ما تبقى من سيادة لبنان، وإخراج سوريا الأسد من المعادلة، لكن لم تأت الأحلام مطابقة لحسابات البيدر.
سقط الجبل، فبدأت المقاومة اللبنانية ترسم حدودها الجغرافية والسياسية والعسكرية، واستطاعت أن تتحوّل إلى قوة مسيحية كبرى، تغيّر في المعادلات، من دون ان تفرضها أحياناً. حاول نظام الأسد تغيير المعادلة من خلال الاتفاق الثلاثي عام 1985. فكانت المقاومة جازمة: “سياسة سوريا مرفوضة، لا تحت شعار الأخوة ولا تحت شعار التاريخ ولا تحت شعار الجغرافيا”.
عام 1989، عقد اجتماع تونس، وكان كارثياً على لبنان. أقنعت سوريا العماد ميشال عون بضرب “القوة المسيحية” في الشرقية مقابل وصوله إلى رئاسة الجمهورية. دمّر عون كل مقومات الصمود المسيحية. وأسقط كل الخطوط الحمر التي كانت مرسومة حول الشرقية والمناطق الحرّة.
أنتجت حرب عون اتفاق الطائف الذي رفضه “جنرال التحرير”، فأدى بالمسيحيين إلى تنازلات على مستوى صلاحيات الرئاسة أعادتهم سنوات إلى الوراء. عدم الموافقة على الطائف دفع الدول الراعية والمؤيدة له إلى إعطاء الإذن لسلاح الجو السوري للإطاحة بعون، لتسهيل الطريق أمام الرئيس المنتخب آنذاك الشهيد رينيه معوض للدخول إلى قصر بعبدا.
في ذكرى الاستقلال في 22 تشرين الثاني 1989، أي بعد سبعة عشر يوماً من انتخابه، اغتيل رينيه معوّض. وانتُخب الياس الهراوي، فأُطلقت يد سوريا في لبنان، وبدأت مرحلة جديدة من الهيمنة السورية، بعد أن سلّمت المقاومة المسيحية سلاحها تطبيقاً لاتفاق الطائف. فتم حل كل الميليشيات ما عدا ميليشيا “حزب الله”.
“الجمهورية الثانية” التي كان من المفترض ان تأتي بعد “الجمهورية الأولى”، جاءت قبلها بقرون، حاملة إلى اللبنانيين عموماً، والمسيحيين خصوصاً، الكثير من المآسي، والويلات، والتنكيل والتهميش. فجُرّد المسيحيون من سلاحهم، وغُيّب قادتهم، إن عبر الاغتيال، أو السجن، أو النفي.
في العام 1994 اقتيد سمير جعجع إلى سجن وزارة الدفاع. ودخل لبنان مرحلة قاسية من مراحل الهيمنة السورية.
وعندما تقفل كل الأبواب، يبقى باب السماء مفتوحاً، فتحوّلت بكركي إلى قلعة مقاومة وصمود، رافضة ان تشكل غطاء مسيحياً لأي سياسة او مشروع يناهض مبادئها وتاريخها الوطني، لتطلق في العام 2000 شرارة “الاستقلال الثاني” في نداء المطارنة الموارنة الشهير، التي دعت فيه إلى انسحاب جيش الاحتلال السوري من لبنان.
دعوة بكركي هزّت هيكل النظام الأمني اللبناني – السوري. حركت نار العصبيات التي كانت مدفونة تحت الرماد، وبدأ العدّ العكسي لانطلاق مسيرة الاستقلال.
في 14 شباط 2005، اغتيل الرئيس رفيق الحريري، فكانت الشرارة التي أيقظت المارد اللبناني من القمقم. خرجت الطائفة السُنية عن صمتها، فاشتعلت الساحات بأصوات الحرية والسيادة والاستقلال، يدا واحدة، وصوتاً واحدا، مسلمين ومسيحيين، إلى أبد الآبدين، فكانت في 14 آذار 2005، انتفاضة الاستقلال، ثورة الأرز، وتظاهرة الاستقلال المليونية.
في نيسان 2005، طُرد الجيش السوري، مهزوماً، مكسوراً، مفجوعاً. لكن سرعان، ما عادت الانقسامات، وبدأ الفرز العامودي، بين من يريد مشروع الدولة والسيادة والاستقلال، ومن يريد استمرار هيمنة سوريا، عبر حليفها هذه المرة، “حزب الله”.
ثورة الأرز التي وحّدت اللبنانيين تحت راية الوطن، كانت من اهدافها الرئيسية، انسحاب القوات السورية من لبنان، تشكيل لجنة دولية للتحقيق باغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، إجراء انتخابات برلمانية حرة ونزيهة، وإسقاط إرث النظام الأمني اللبناني – السوري.
الأهداف تحققت، إلا ان محاولات ضرب وإلغاء ثورة الأرز لم تهدأ، من آذار 2005، ومعادلة “شكراً سوريا”، إلى الاغتيالات التي طالت قادة ومفكري وعصب ثورة الأرز، إلى الأحداث الأمنية، والأفخاخ السياسية، مروراً بانعطافة النائب وليد جنبلاط وخروجه من 14 آذار في 24 كانون الثاني 2011 وانتقاله إلى صفوف 8 آذار تحت ضغط أصحاب القمصان السود، وصولا إلى قبض “حزب الله” على كل مفاصل الدولة السياسية والأمنية وغيرها، والهيمنة الايرانية على القرار اللبناني، جعل 14 آذار تنتقل من قوى مبادِرة، وقوية ومتماسكة، إلى قوى مشتّتة، مهمتها تقديم التنازلات والتسويات تلو الأخرى، وبالتالي، فإن مهمة 14 آذار وإنقاذ الكيان والمؤسسات والدولة وثوابت بكركي الوطنية، هي اليوم في دائرة الخطر، ما يتطلب مبادرات وخطوات قوية، صلبة، وجريئة، منها:
– إجراء نقد ذاتي لكل المرحلة التي تلت.. فلا يمكن الاستمرار بسياسة الخنوع والخضوع والمساومات.. نعم، فنحن نريد “الطار” من لحود ومن بشار، ومن “حزب الله” ومن كل رموز النظام المجرم، ومن يؤيد ويتبع ويعبد ويعتنق ويدافع عن هذا النظام في سوريا.
– إنتاج توازن على مستوى موازين القوى مع “حزب الله”.
– التقريب بين صورة الأمس وصورة اليوم، عبر تضييق مساحات الفوارق في الممارسة والمفاهيم والمعاني، البعيدة عن المعنى الحقيقي لثوابت ثورة الأرز.
– المطلوب العودة إلى الجذور، للقول لا للقهر والظلم والجريمة، ولا للسلاح غير الشرعي. والقول عالياً، “مستمرون من أجل حماية لبنان”.
– وضع استراتيجيات بعيدة الأمد تحدّد الرؤية والمسار لتحقيق المصير المبتغى والناجح، وعبرها، مواجهة كل الوصايات الجديدة، عبر توحيد الورقة بشأن الاستراتيجية الدفاعية، والابتعاد عن المحاور الدولية، والاجماع الوطني حول اتفاق الطائف، وتنفيذ ما اتفق عليه سابقاً من مقررات الحوار الوطني.
– أداء وطني يعيد شمل جبل المصالحة، جبل البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، وجبل كمال جنبلاط، على خطة واعدة تنهض لبنان، وتعيد له قدسيته والوهيته ومميزاته.
وبانتظار ما سيؤديه “المجلس الوطني لقوى 14 آذار” من دور وتفعيل لسياستها ودورها وحضورها، وما إذا كان سيكون على قدر التمنيات، فالأكيد أن 14 آذار يجب ان تتشبث بعناوينها القديمة الجديدة، التي وجدت من أجلها.
فلا استقلال حقيقياً، ولا سيادة من خلال الأمن بالتراضي..
لا سلطة للجيش والدولة تقف عند حدود الضاحية والمخيمات..
لا استقلال وسيادة من دون تطبيق القرارات الدولية..
لا للمحور السوري – الايراني، ومصادرة الوطن..
لا استقلال حقيقياً من دون تحرير كل المزارع الأمنية، بدءا من مزرعة الضاحية..
لا استقلال وسيادة، ومشروع إيران يتغلغل في الثقافة اللبنانية الوطنية..
لا استقلال حقيقياً في ظل قداسة وهمية، فلا قداسة ولا قدسية إلا الوطن لبنان..
لذلك، فإن المطلوب من 14 آذار “اقتلاع المرض من أساسه هذه المرة، ولو أدت إلى ثورات أرز لا نهاية لها”.