جوزيف ستيجليتز؛ مارتن جوزمان
عندما أصدر القاضي الفيدرالي الأمريكي توماس جريزا حكمه بأن الأرجنتين ملزمة بالسداد بالكامل لما يسمى الصناديق الجشعة التي اشترت ديونها السيادية بأسعار متدنية للغاية، واضطرت البلاد إلى التخلف عن سداد ديونها، أو ما أطلق عليه وصف “Griesafault” . وقد خلف هذا القرار صدى بعيد المدى، فأثر في السندات الصادرة على مجموعة متنوعة من المناطق، الأمر الذي يشير إلى أن محاكم الولايات المتحدة قادرة على التأثير في العقود المنفذة في بلدان أخرى .
ومنذ ذلك الحين، حاول المحامون وخبراء الاقتصاد استجلاء العواقب المربكة المترتبة على قرار جريزا . ولكن هل تمتد سلطة المحاكم الأمريكية حقاً إلى خارج حدود أمريكا؟
الآن، جلبت محكمة في المملكة المتحدة أخيراً بعض الوضوح لهذه القضية، فحكمت بأن مدفوعات الفائدة الأرجنتينية على السندات الصادرة بموجب قانون المملكة المتحدة يغطيها قانون المملكة المتحدة وليس الأحكام القضائية الصادرة في الولايات المتحدة . والواقع أن هذا القرار الذي يمثل انفصالاً محموداً عن سلسلة من القرارات الصادرة عن قضاة أمريكيين يبدو أنهم لا يفهمون مدى تعقيد الأسواق المالية العالمية ينقل بعض الرسائل المهمة .
فأولاً وقبل كل شيء، كان استباق المحكمة الأمريكية التي عارضتها محكمة بريطانية بعد ذلك لمفاوضات الديون الأرجنتينية، بمثابة تذكرة قوية بأن الحلول القائمة على السوق لأزمات الديون السيادية لديها قدرة عالية على إحداث الفوضى . فقبل قرار جريزا الذي أدى إلى تخلف الأرجنتين عن السداد، كان يفترض عن طريق الخطأ غالباً أن الحلول لمشاكل سداد الديون السيادية يمكن التوصل إليها من خلال مفاوضات غير مركزية، في غياب إطار قانوني قوي . وحتى بعد ذلك، سعى المجتمع المالي وصندوق النقد الدولي إلى فرض بعض النظام في أسواق السندات السيادية ببساطة من خلال تعديل عقود الدين، خاصة الشروط الواردة في فقرات العمل الجماعي (التي تلزم كل الدائنين باقتراح إعادة الهيكلة الذي توافق عليه الأغلبية العظمى) .
ولكن التعديلات البسيطة مثل تنقيح العقود لن تتغلب على أوجه القصور التي تعيب النظام . فمع خضوع ديون متعددة لعدد كبير من القوانين التي قد تكون متناقضة أحياناً في ولايات قضائية مختلفة، فإن الصيغة الأساسية المتمثلة في إضافة أصوات الدائنين التي روج لها أنصار النهج القائم على السوق إلى المعادلة، لن تفعل الكثير لحل مشاكل المساومة المعقدة . ولن تنجح في إنشاء أسعار صرف يمكن استخدامها لتقييم الديون الصادرة بعملات مختلفة . وإذا تُرِكَت هذه المشاكل للأسواق لمعالجتها فإن قوة المساومة المحضة، وليس اعتبارات الكفاءة والإنصاف، هي التي سوف تحدد الحلول .
والواقع أن العواقب المترتبة على أوجه القصور هذه ليست مجرد مضايقات . ذلك أن التأخير في إتمام إعادة هيكلة الديون من الممكن أن يجعل الركود الاقتصادي أكثر عمقاً ودواماً، كما توضح الحال في اليونان .
ويقودنا هذا إلى الدرس الثاني المستفاد من الحكم البريطاني . فمع ارتفاع المخاطر للغاية وتعطل النظام، لم يعد لدى أسواق الديون أي سبب يُذكَر للبقاء في الولايات المتحدة . كانت أمريكا تتفاخر دوماً بقوة “سيادة القانون” لديها، وهي النقطة المشجعة التي جعلت وول ستريت مكاناً لاستضافة أكبر سوق للديون السيادية . ولكن حكم جريزا، الذي اعتمد على تفسير غريب وفي اعتقادنا لا يمكن الدفاع عنه لشروط معينة في عقد الأرجنتين، أظهر أن المصالح التجارية للولايات المتحدة من الممكن أن تهيمن على قرارات محاكمها .
الواقع أن سيادة القانون التي طالما ادعتها أمريكا لم تعد تبدو قوية . بل إنها تحمي على نحو شاذ القوي على حساب الضعيف . ولم يكن قرار جريزا سوى القرار الأحدث بعد العديد من القرارات والتغيرات القانونية التي كشفت عما يمكن أن نسميه عَرَضاً للفساد على الطريقة الأمريكية، حيث تهدد جماعات الضغط ومساهمات الحملات الانتخابية بتعريض النظام بالكامل للخطر، حتى بالرغم من أننا لا نستطيع أن نزعم أن أي مسؤول فردي يقبل الرشوة . ومن الحكمة أن تتحرك الولايات المتحدة الآن قبل أن تهاجر سوق الديون السيادية من نيويورك .
ولابد أن تكون الصين على استعداد لشغل الفراغ . ذلك أن مدخراتها الآن تفوق كثيراً نظيراتها في الولايات المتحدة، وهي تسعى جاهدة إلى تحويل شنغهاي إلى مركز مالي عالمي . وقد أصبح هذا الطموح أقرب منالاً في ضوء الضرر الذي لحق بمصداقية النظام في الولايات المتحدة في أعقاب الأزمة المالية في عام 2008 . ولكن إذا كان لشنغهاي أن تظهر كرائدة لأسواق الإقراض السيادية، فينبغي للصين أن تكون واعية لأوجه القصور التي تعيب الأطر القانونية في أماكن أخرى، وأن تصمم بديلاً أكثر كفاءة وإنصافا .
وتتلخص الرسالة النهائية الشاملة لقرار المحكمة البريطانية في أن كل البلدان لابد أن تنتبه . فهناك حاجة ملحة إلى تجديد جهود الأمم المتحدة الرامية إلى خلق إطار قانوني متعدد الجنسيات لإعادة هيكلة الديون السيادية . وبالرغم من أن الولايات المتحدة تسعى جاهدة لتقويض هذه الجهود، فإن الحكم الصادر في المملكة المتحدة يذكرنا بأن قضاة أمريكا ليسوا قضاة العالم .
قد لا تكون مؤسسات وول ستريت سعيدة بهذا الكشف، غير أنه في نظر العديد من الدول في مختلف أنحاء العالم التي تعتمد على الديون السيادية نبأ طيب للغاية حقاً .