كتب ايلي الحاج
لم ينزل اللبنانيون معترضين الى ساحة الشهداء على نظام الوصاية السوري قبل عشر سنوات كحركة سياسية. مواطنين عاديين في غالبيتهم كانوا ولا يزالون. لبّوا كلٌ من منطلقاته الخاصة نداء الوطن كما يتخيله ويريده كمن يدلي بصوته في صندوقة انتخاب ثم عاد الى حياته العادية. كان على السياسيين أن يكملوا ويحفظوا الأمانة بما استطاعوا.
لم يقدروا؟ كانت آلة القتل تلاحقهم، توقع بينهم أجمل الشهداء، وعادت مع مرور الوقت روح الفردية والتفرد فتفرقوا أحياناً، وكثيراً ما كانت الأحوال الضاغطة تفعل فيهم، وبعضهم آثر عدم الاستمرار في مخاطرة لا تعنيه في حياته وحده بل في جموع خلفه تأتمنه على حياتها وبقائها. في الأصل كان المفترض، في تطلعات المنتفضين المسالمين وأحلامهم بعد جريمة 14 شباط 2005 المهولة، أن يجتمع اللبنانيون بلا استثناء على عهد جديد. خالفهم “حزب الله” وخلفه من بقي من النظام السابق. لم يكن في ظن أحد أن الحزب المسلح سيخلف نظام الوصاية ويده الثقيلة على لبنان دولة وشعباً. لم يكن أحد يتوقع أن تحاكم المحكمة الدولية احدى خلاياه الأمنية بتهمة اغتيال الرئيس الشهيد.
واجه الحزب المعترضين كطائفة ومذهب وميليشيا. كان لا بد للطائفية والمذهبية أن تنشرا العدوى ان لم يُستوعبا. ولعلّ أحد أكبر أخطاء تقدير وقعت فيه القيادة السياسية للانتفاضة السلمية هو توهّمها في لحظة تاريخية فاصلة أن الحزب العقائدي الحديد، والشديد الارتباط بالنظام في ايران قابل للاستيعاب و”اللبننة” لكون عناصره لبنانيين. سيمرّ وقت ثمين قبل التأكد أن مهمة “حزب الله” أبعد بكثير من حدود بلاد الأرز الضيقة عليه، وأنه عصا نظام ايران المتحالف مع النظام في سوريا والنظام الجديد في العراق لبسط النفوذ الامبراطوري الفارسي على المنطقة، فيما الدول والشعوب العربية لا تبارح عجزها وارتباكها حيال الاختلال الهائل في موازين القوى بينها وبين جارها العملاق الايراني الذي خرج من القمقم وحضر الى دارها على حين غفلة.
اختلفت التحديات والخصوم. كان اعتقاد قوى 14 آذار أنها غلبت النظام السوري على أرض لبنان باجباره على سحب جيشه وتشكيل المحكمة الدولية، لكنها وجدت نفسها واقفة أمام جدار حليفه وحاميه الأكبر منه، النظام الايراني. لسوء الحظ لا التحالفات العربية تجدي للتغلب عليه ولا التعويل على الدول الكبرى والغرب. للبنانيين أن يأخذوا عبرة راعبة من مأساة الشعب السوري المتمادية منذ أربع سنوات، والمفتوحة على الأبشع.
بسبب من رغبة في كسب الوقت وانتظار تحسن الظروف، ومن احترام لموازين القوى والعقلانية، وأيضاً من ميل فطري ربما الى التسويات وتحاشي المواجهات عموماً، مارست قوى 14 آذار سياسة النعامة أحياناً، وسياسة الحمل أحياناً كثيرة أمام سطوة الذئب الكاسر. لكن الوقت الطويل لا يتحمل مراوحة وغياب رؤية وتخبطاً في الخيارات والسياسات. تفرق الناس الى فردياتهم وهمومهم الشخصية. أما من بقوا مشدودين الى الصراع الذي سلك وجهة أخرى فبقوا متحفزين من دوافع مختلفة عن السابق، دوافع الرد على التحدي الذي رماه “حزب الله” في وجه جميع اللبنانيين، وتعامل كل فريق معه من ذهنية مغايرة: الانتهازي الساعي الى السلطة بادر الى تحالف لا مبدئي مع الحزب المسلح، والراغب في السلامة انسحب الى الحياد، والمبدئي فضّل ابقاء “ربط نزاع” مع الحزب، في موازاة اعتماد سياسة تسيير أمور الناس الصعبة وترك نوافذ الحوار مفتوحة، وان على أفق مغلق.
الا أن أفظع مظاهر العدوى من “حزب الله” هو انكفاء الأحزاب والطوائف على نفسها كما يفعل هو بحكم طبيعته. عبّرت عن ذلك قوى 14 آذار في أزمات نافرة عند كل استحقاق نيابي أو وزاري أو اداري، وفي الاختلافات على مشاريع القوانين الانتخابية، كما في تقرير السياسات الكبيرة العامة والتي تؤثر سلباً في جوهر مبدأ “انتفاضة الاستقلال”. شكلت مرحلتا “القانون الأرثوذكسي” و”السين – سين” على سبيل المثال أكبر دليل على غياب التشاور والتنسيق الكافيين عن الحركة السيادية.
كان الاعتماد طوال الوقت منذ 2008 على وجود أمانة عامة لقوى 14 آذار تجتمع أسبوعياً وتُلتقط لها صُور وتصدر بيانات لتأكيد أن “كل شيء على ما يرام سيدتي الماركيزة”. بما ومَن أمكن، قام منسقها الدكتور فارس سعيد ورفاقه بجهد استثنائي لامرار بعض المحطات وبكثير من تعب ومعاناة أحياناً ( رحم الله نصير الأسعد، محرك الأفكار وحلّال العُقد)، وضعوا مجموعة كبيرة من الوثائق والأوراق السياسية، نظموا عدداً كبيراً من المؤتمرات، واللقاءات في بيروت وصيدا وطرابلس ومعراب وعرسال وغيرها، ومن ورش العمل، فضلاً عن جهد يستلزمه البقاء على اتصال بالصحافة والاعلام والمجتمع المدني، خزان 14 آذار. وكثيراً ما انعكست على الأمانة مواقف الأحزاب بعضها حيال بعض آخر وغياب زخم الحماسة للعمل الجماعي ككل. وأسباب أخرى دفعت الى نفض الغبار عن مشروع انشاء “المجلس الوطني” الذي طُرح للبحث سنة 2011 ولم يبصر النور. بعض الأحزاب لم يكن مقتنعاً بالجدوى منه آنذاك.
مع تفتت القاعدة وضياعها وارتفاع الشكوى من استبعاد المواطنين العاديين كما قادة الرأي، وتوسع اللامبالاة الشعبية، بل ظاهرة اليأس من القدرة على احداث أي تغيير في مسار الأحداث ومصير لبنان، كان لا بدّ لمن فرملوا فكرة انشاء المجلس قبل أربع سنوات من العودة الى ناس 14 آذار. ويبقى أهم شروط نجاح “المجلس الوطني”: انتخاب رئيسه ( أو أمينه العام، أو منسق أعماله) ونائبه وأمناء السر من الهيئة العامة التي تضم مئات الناشطين، الحزبيين وغير الحزبيين خارج القيد الطائفي، لفتح كوة على الديموقراطية أقلّه. والشفافية المالية لتثبيت استقلاليته وحريته.
بعد اقرار “المجلس الوطني” ماذا سيكون مكان “الأمانة العامة” في الاعراب؟ الدكتور فارس سعيد يحتفظ بالجواب لنفسه، وقد يعلنه اليوم مفاجأة للمؤتمر.