عندما اندثرت قطاعات صناعية عريقة بكاملها ( كالنسيج والجلود مثلاً ) في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وصولاً إلى اقفال مصنع ” يونيسيراميك ” في كفرشيما قبل 8 سنوات، وعلى أثره مصنع ” المستقبل ” للأنابيب البلاستيكية في عكار، ومصنع ” سوليفر ” للزجاج ” في الشويفات، لم يشهر أصحاب هذه المصانع افلاسهم.
ممّا يعني أن استمرارية الانتاج في هذه المؤسسات أقلّه، لم تكن لها علاقة بتوافر السيولة أو عدمها. والدليل أن غالبية هؤلاء، استشرفوا مخاطر السياسات الحكومية الاقتصادية المجحفة، حتّى الابادة، بحقّ القطاعات الانتاجية. فأقفلوا مكرهين، مستدركين الانهيار قبل فوات الأوان.
ولكنّ القسم الأكبر منهم تأقلم سريعاً مع صناعات جديدة مختلفة. وضمن ثبات مؤسسته في الانتاج، إمّا عبر الاستمرارية في لبنان، أو عبر الانتقال إلى مصر و/ أو المملكة العربية السعودية، وغيرها من البلدان، حيث الحوافز أكثر جذباً للاستثمار الصناعي.
في هذا السياق يرى خبير مالي في حديث خاص ” للاقتصاد ” أن ” أبرز عناصر صمود المؤسسات المعروفة في لبنان طوال سنين الحرب يعود لكونها مؤسسات عائلية، يملك أصحابها ثروات طائلة موظّفة في لبنان والخارج. ولا يسمح لهم الإرث الذي يحملونه، باشهار الافلاس. وهم يعملون المستحيل لتفادي السقوط، لأن النجاح كما الفشل، مرتبطان باسم العائلة وسمعتها ونفوذها وطموحاتها السياسية.” ويضيف أن لهذا الاداء العائلي – المؤسساتي – الاجتماعي ” حسنات اقتصادية ضاعفت من روح التحدّي والمسؤولية لدى هؤلاء لتجاوز الصعاب.”
غير أنّ تشكّل الاقتصاد الوطني من 80 إلى 90% من مؤسسات صغيرة ومتوسطة الحجم، وارتفاع عدد المتخرّجين من الجامعات وحاجتهم إلى فرص عمل، وازدياد نسبة الشباب البالغ عمر الزواج وحاجته إلى السكن، دفع بالدولة اللبنانية إلى انتهاج وتبني سياسة ” القروض المدعومة ” منذ العام 1997، لتخفيف الأعباء والأكلاف على المستثمرين في أي حقل من حقول الصناعة، والزراعة، والاسكان، والتعليم العالي، والصحّة، والبيئة، والطاقات المتجدّدة، والتكنولوجيا وغيرها، وذلك بهدف تأمين الرفاه لأبناء المجتمع اللبناني، عبر تحقيق المزيد من النمو والفرص، والحدّ من النزوح الداخلي باتجاه المدينة، أو الهجرة إلى الخارج.
وأًصبح منح التسهيلات الاقراضية متاحاً أكثر اليوم، في ظلّ اتّباع سياسات مالية مرنة، وانتشار أكثر من ألف ومئة فرع للمصارف اللبنانية السبعين العاملة في مختلف المناطق اللبنانية، ومع وصول موجودات القطاع المصرفي نهاية العام 2014 إلى حدود الـ 175 مليار دولار أميركي، ومع ملامسة احتياط العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان عتبة الـ 40 مليار دولار أميركي ( من دون قيمة احتياط الذهب).
إذاً، لم تستهدف القروض المدعومة القطاع الصناعي فقط . ولكن حاجة أهل القطاع إلى التوسّع، وإلى مضاعفة قدراتهم الانتاجية والتنافسية، في ظلّ اشتداد المنافسة في الأسواق المفتوحة، دفعهم إلى تشكيل أكبر فئة مستفيدة من القروض المدعومة تجاوزت النصف.
وفي هذا المجال اوضح المدير التنفيذي لوحدة التمويل في مصرف لبنان د. وائل حمدان لـ” الاقتصاد “، أن ” مجمل عدد المستفيدين من القروض المدعومة بلغ 16700 شخصاً أو مؤسسة على مدى الـ 18 عاماً الأخيرة، أي منذ العام 1997 وحتى اليوم. ووصل عدد الصناعيين المستفيدين إلى 9000 مستفيد خلال هذه الفترة ( 500 من بينهم اقترض مرّتين )، أي ما نسبته 54% من مجمل عدد المستفيدين في مختلف القطاعات الزراعية والسياحية والاسكانية والتعليمية…
وأضاف حمدان: “لقد بلغ حجم القروض المدعومة خلال هذه الفترة، ستة مليارات ومئة وثلاثين مليون دولار أميركي ( 6.130 مليار $ )، استحوذ القطاع الصناعي منها على ثلاثة مليارات وستماية مليون دولار أميركي منها (3.6 مليار $)، أي ما نسبته 58%.”
وفي تعليق لرئيس جمعية الصناعيين الأسبق ورئيس مجموعة اندفكو الصناعية نعمة افرام ” على هذه الأرقام،أكد لـ”الاقتصاد” أن القروض المدعومة ساهمت ” في احراز القطاع الصناعي النقلة النوعية والفارق اللذين يميّزانه عن سائر القطاعات الاقتصادية، وفتحت الآفاق الواعدة أمامه. وكما سنحت للمنشآت القائمة التوسّع، أتاحت الفرصة أمام المستثمرين الجدد لتأسيس مصانع جديدة، بكلفة أقل. فانعكس هذا الدعم نتيجة ممتازة على مجمل القطاع. ونتمنّى مواصلة هذه المبادرات المحفّزة للنمو.”
هذا وقد تولى مصرف لبنان رسم هذه السياسات على مرّ السنوات الماضية، بالتنسيق والتعاون مع وزارة المالية، عبر وضع برامج واصدار تعاميم وقرارات بهذا الخصوص. وأوكل إلى المصارف الخاصة تنفيذها. وساهمت في التنفيذ أيضاً، كلّ بحسب المهام والمسؤوليات المنوطة به، مؤسسة كفالات، والمؤسسة العامة للاسكان، والمؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات ( ايدال ).
من جهته نائب رئيس الجامعة اللبنانية – الالمانية، الخبير الاقتصادي د. بيار الخوري عدّد ” للاقتصاد” بعض أشكال القروض المدعومة على الشكل التالي: “التسليفات المتوسطة والطويلة الاجل، التسليفات المضمونة من كفالات، التسليفات المدعومة والممنوحة من البنك الاوروبي للتثمير، الايجار التمويلي، التسليفات المدعومة والممنوحة من مؤسسة التمويل الدولية، التسليفات المدعومة والممنوحة لتمويل رأسمال تشغيلي، التسليفات المدعومة والممنوحة من الوكالة الفرنسية للتنمية، وغيرها.”
ورداً على سؤال عن أهمية هذه القروض؟
أجاب: ” يحتاج القطاع الصناعي الى القروض المدعومة لسببين رئيسيين: الأول أن كلفة الاقتراض في لبنان مرتفعة بسبب أزمة المالية العامة من جهة، واتساع الهامش بين فائدتي الايداع والاقراض من جهة أخرى. والسبب الثاني أن أكلاف الانتاج مرتفعة عموما بالمقارنة مع الاقتصادات المحيطة وخاصة تلك المنافسة للصناعات اللبنانية، الأمر الذي يحتاج فيه الصناعي إلى كلّ ما يساعده على تخفيض كلفة انتاجه ليقدر على المنافسة.”
وشرح الخوري ” أن الفارق بين سعر الفائدة المدعوم وسعر الفائدة في السوق، يصب في هذا الإطار. ويحتاج القطاع الصناعي الى توسيع الكتلة الموظفة في القروض المدعومة لتشجيع القادمين الجدد الى العالم الصناعي، ولرفد نمو المؤسسات الصناعية القائمة.”
وعن النتيجة المرتقبة لهذه السياسات، قال : ” إن مقارنة الكلفة والمردود على المستوى الاقتصادي الوطني لهذا النوع من القروض، يلعب دائما في مصلحة تكبير حجم الاقتصاد وخلق المزيد من فرص العمل.”
وللاطلاع على رأي القطاع المصرفي إزاء هذه السياسات تحدثنا الى مدير عام مصرف
فرنسبنك منصور بطيش فشدد على أن منح القروض المدعومة للقطاعات الانتاجية وفي مقدّمتها الصناعة طوال السنوات الماضية ” هو خطوة أساسية في هذه المرحلة الصعبة التي يمرّ فيها لبنان، والتي يحتاج فيها إلى دعم مؤسساته في سبيل تحقيق النمو الاقتصادي. ولقد شكلت هذه القروض محفّزاً لزيادة الانتاج، والتصدي، ولتحريك القطاع الصناعي بمرونة أكبر. ونحن كمصارف خاصة، نقدّم تسهيلات جمّة للمستثمرين، ونسعى إلى تزويده بالاستشارات المفيدة، التي تمهّد له الطريق والرؤية لاتخاذ القرار الصحيح والصائب.”
لم يشكّل التمويل إذاً عائقاً أمام نمو الصناعات. فهناك عوائق أخرى، تبدأ بكلفة الطاقة المرتفعة، وضيق المناطق الصناعية، والاستيراد المفتوح إلى حدّ الاغراق، وسياسات فرض الرسوم غير العادلة التي تعتمدها سائر البلدان على الصادرات اللبنانية من أجل حماية انتاجها الوطني.
أما عن مدى السهولة المؤمنة لحصول الصناعي على القرض، فشرح نائب رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين زياد بكداش ” للاقتصاد “، ” أن هناك شروطاً قاسية وضعتها مؤسسة كفالات، رغم توافر السيولة، وتسجيلها أرقاماً قياسية.” وعزا صعوبة أخرى إلى ” ارتباط القروض المدعومة بالمصارف الخاصة.”
وتعليقاً على حصول الصناعيين على 58% من مجمل القروض المدعومة منذ العام 1997، ردّ السبب ” إلى حجم الاستثمارات الصناعية الضخمة، واستهدافها التصدير، الأمر الذي يتطلب تحديث الالات والتجهيزات والمكننة بصورة دائمة.”
وقال: ” إن الاستثمارات الصناعية كانت تضاعفت أكثر لولا الوضع السياسي- الأمني الشائك في لبنان. وقد أدّى ذلك إلى تردّد زبائننا الخارجيين في التعامل معنا، خشية من عدم قدرتنا على التسليم بحسب البرامج الزمنية المحدّدة. هذا الوضع، إضافة إلى تدهور سعر اليورو، أفقدنا أسواقاً اوروبية مهمّة، لأن الصناعة ذات المنشأ الاوروبي أصبحت أسعارها تنافسية جداً في دول الاتحاد. ولذلك نطالب الدولة بمساعدتنا على فتح أسواق جديدة خصوصاً في افريقيا. ونعلّق أهمية كبرى على دور الملحقين التجاريين في البعثات الديبلوماسية في الخارج، لتعريفنا على حاجات هذه الأسواق. إذ ليس باستطاعة جميع الصناعيين المشاركة في المعارض الدولية المتخصّصة، لاستكشاف الأسواق، وايجاد الشراكة المطلوبة لتصدير منتجاتهم. ويقوم وزير الخارجية والمغتربين بدور ايجابي على هذا الصعيد، لناحية تشجيع سفرائنا في الخارج حيث لا يوجد ملحقون تجاريون، على تامين التواصل بين الصناعيين وهذه البلدان، ولا سيما حيث تنتشر الجاليات اللبنانية الفاعلة والمؤثرة.”