بروفسور جاسم عجاقة
من المُتوقَع أن تلتئمَ لجنة المال والموازنة نهار الثلثاء المقبل في إطار إعادة تفعيل مشروع سلسلة الرتب والرواتب وذلك بهدف إقراراها من الهيئة العامة لمجلس النواب. إلا أنه وبغياب مُعجزةٍ إلهية، لا توجد أيّ قدرة للدولة على تمويل هذه السلسلة بصيغتها الحالية.
أصبحت أحداث سلسلة الرتب والرواتب اليوم كافية لملء قصة روائية تحكي عن فشل التخطيط الاقتصادي والمالي في لبنان.
قصةٌ قد تكون Bestseller مع بيع ملايين النسخ والتي قد تُدرَّس في الجامعات.
هذا المقال يهدف إلى إثبات إستحالة قدرة الدولة على تمويل كلفة السلسلة وذلك من وجهة نظر إقتصادية ومالية عامة من دون التطرق إلى تفاصيل بنود التمويل.
الإصدار الأخير: عوارض إفلاس شكل الإصدار الأخير الذي قامت وزارة المال والبالغ 2.2 مليار دولار أميركي علامة واضحة إلى حاجة الدولة اللبنانية إلى الأموال لسدّ العجز الناتج عن تقلّص الإيرادات وزيادة النفقات.
وهذا الإصدار الأول في تاريخ الجمهورية اللبنانية من ناحية الحجم والذي يُظهر خطورة الوضع المالي من ناحية الإستحقاقات التي تنتظر الخزينة والتي تتمثل بزيادة في الإنفاق العام الجاري خصوصاً الأجور وملحقاتها وفوائد الدين العام التي من المتوقع – أي الأجور والفوائد – أن توازي لوحدها إيرادات الخزينة.
وهذا يعني أنّ كلّ إنفاق عدا هذين البندين سيشكل عجزاً يتحوّل إلى دين عام مع فوائد. من هذا المنطلق ومع إيرادات الخزينة التي تقلّ يوماً بعد يوم، تقوم المصارف اللبنانية بشراء سندات الخزينة اللبنانية غيرَ آبهة بقدرة الدولة على سدّ ديونها.
ووصل الوضع إلى مستوى أصبح معه إنغماس المصارف التجارية ومصرف لبنان يفوق الـ 80% من حجم الدين العام لدرجةٍ لم يعد معها هذا القطاع قادراً على وقف تمويل عجز الدولة ودينها العام.
ويبقى السؤال إلى متى سيستمرّ الوضع على ما هو عليه؟ وما هي النتيجة المتوقَّعة؟ النموّ الاقتصادي غير كاف ولكي يكتمل المشهد، يمرّ لبنان بوضعٍ إقتصادي تعيس حيث لا يُسجِّل هذا الاقتصاد أكثر 1 إلى 1.5% كنسبة نمو، وهذا غير كاف لكي يُغطّي فوائد الدين العام.
ومعدّل الفوائد على الدين العام توازي الـ 7% كمعدل وسطي أيْ أنّ النموّ يجب أن يزيد عن العشرة بالمئة لكي تتمَّ تغطية الفوائد على الدين العام.
فكيف لإقتصاد يُتوقع نموّه بنسبة 2% من البنك الدولي أن يُغطي نفقاته من هذا النموّ؟
لا بل أصعب من ذلك: كيف يُمكن زيادة 4000 مليار ليرة إضافية على هذا الاقتصاد والضريبة على القيمة المُضافة لا تجلب إلّا 3126 مليار ليرة لبنانية؟ الجوابُ مستحيل من المداخيل التي يطرحها مشروع
سلسلة الرتب والرواتب!
هناك حلّان لا ثالثَ لهما وهو أنّ إقرار السلسلة بمشروعها الحالي كارثة على الاقتصاد وعلى المالية العامة وذلك من ناحية التداعيات الكبيرة على هذين الشقين:
المالية العامة: من أهم التداعيات على المالية العامة زيادة العجز وبالتالي زيادة الدين العام وذلك بحكم عدم وجود موارد مالية كافية لتغطية الكلفة.
هذا الأمر سيدفع وكالات التصنيف الإئتماني إلى تخفيض تصنيف سندات الخزينة اللبنانية وبالتالي رفع معدّلات الفائدة إلى نسب سيزيد معها الدين العام.
إنّ إقرار السلسلة بوضعها الحالي له عواقب مباشرة وغير مباشرة على الاقتصاد. فزيادة الأجور ستدفع إلى زيادة البطالة في القطاع الخاص عبر زيادة العمالة الأجنبية. أضف إلى ذلك فقدان القدرة التنافسية مع بلدانٍ كتركيا ومصر وبالتالي خفض ربحيّة الشركات ما سيقلّل الإستثمارات وبالتالي النموّ.
كلّ هذا سيتمّ في ظلّ ارتفاع التضخم كنتيجة لزيادة الطلب على البضائع المستورَدة (أيْ خروج الأموال من لبنان) وبالتالي زيادة العجز في الميزان التجاري. أما التدعيات غير المباشرة فتتمثل بقلة القروض للقطاع الخاص كنتيجة إستهلاك الدولة للأموال المرصودة للإستثمارات من المصارف.
وإقرارُ السلسلة بشكل لا يؤذي الاقتصاد ولا المالية العامة يتمّ عبر إحدى الوسيلتين التاليتين:
أولاً إقتصادياً: وذلك عبر تحفيز الإستثمار والإستهلاك وتفعيل التنافسية والقضاء على الإحتكارات في القطاعات العامة والخاصة.
كلّ هذا في ظلّ إقرار قانون الشراكة بين القطاعين الخاص والعام وزيادة الدعم للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم. هذا الأمر كفيل بزيادة النموّ الذي سيستفيد منه العامل والموظف عبر زيادة الأجور والشركات عبر زيادة الأرباح.
وإضافة إصلاحات إلى هذا المزيج من الخطوات سيدفع بالنموّ إلى عتبات تفوق نموَّ الأعوام 2007 – 2010 مع فارق أساس وهو أنّ هذا النموّ مُستدام.
ثانياً مالياً: وذلك بواسطة فرض ضرائب ورسوم على الأنشطة غير المرتبطة بالنشاط الاقتصادي وعلى رأسها الأملاك البحرية والنهرية، الأرباح على العمليات العقارية مع مفعولٍ رجعي إلى 8 سنوات، ضرائب على الشقق الشاغرة، جلب الضرائب والفواتير المُستحَقة والتي لم يدفعها المعنيون.
هذا الأمر سيسمح بتأمين قسم كبير من الكلفة ويُمكن تعويض قسم من الخسارة الناتجة عن خفض الرسوم الجمركية (إتفاقية الشراكة مع الإتحاد الأوروبي) عبر زيادة الضريبة على القيمة المُضافة بنسبة 1%. ولكي يتمّ دفع كلّ المُستحقات يجب على الحكومة دفع القسم المتبقي على شكلِ سندات خزينة لصالح المواطن مع فوائد توازي الفوائد التي تدفعها الدولة للمصارف.
هذا الأمر له تداعيات إيجابية على أصعدة عدّة أهمها تخفيف تعلّق مالية الدولة بالمصارف، تحسين نظرة وكالات التصنيف الإئتماني بلبنان، عدم إلزامية الإستيدان لدفع السلسلة، وغيرها من العوامل الإيجابية الأخرى كلجم التضخّم وتأمين أموال كافية للإستثمار في القطاع الخاص.
لا مزايدات شعبوية: السلسلة حق، لكنّ هذا الحق مُكلفٌ جداً على لبنان والإقتصاد اللبناني. والأصعب أنه مع المشروع الحالي سيدفع 4 ملايين شخص ثمنَ سعادة 250 الف موظف في الدولة اللبنانية.
إنّ مشكلة السلسلة هي أنّ هناك طبقة في لبنان تعيش حالَ فقر كبير ولا يمكنها الإستمرار في هذا الأمر. هذا الأمرُ ناتج عن النظام الاقتصادي الذي سمح لقلة من الشعب اللبناني بإمتلاك معظم ثروات لبنان.
من هذا المنطلق يتوجّب العمل على تطوير القطاع الخاص عبر دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم. وكلّ حلٍّ لا يتناسب مع الحلَّين المطروحَين أعلاه يُعتبر من باب المزايدة الشعبوية ويدلّ على مدى الجهل بتداعيات إقرار السلسلة بصيغتها الحالية.