فراس أبو مصلح
الأطر النقابية القائمة عبارة عن هياكل متكلسة تحارب التغيير، وتجتر قياداتها «الأبدية» الخطاب نفسه منذ عقود، تقر بعض هذه القيادات نفسها. باتت النقابات تمثل ما لا يتعدى 7% من مجمل القوى العاملة، ذلك أن قياداتها تعتبر تراخيص النقابات بمثابة «امتيازات» تسترزق منها وتدافع عنها بشراسة، وترتضي التواطؤ مع السلطات ضد الحراك المطلبي، لقاء «التجديد» لمواقعها.
أما النقابات القليلة الخارجة عن عباءة السلطة، فبعضها لم يخرج عن إطار العلاقة الزبائنية، إنما مع «جهات مانحة» أجنبية تدفع الأموال لقاء الاهتمام بمسائل جزئية معينة، كمسألة العمال الأجانب والمرأة العاملة، ما يبقيها ضمن حضيرة التبعية وضيق الأفق الذي «يأسر» حتى النقابيين غير المرتزقين لدى السلطة أو الجهات الأجنبية في دائرة المطالب المحصورة في إطار تحسين شروط العمل، بعيداً عن نقد السياسات الاجتماعية-الاقتصادية الكلية التي تقسّم الجسم العمالي لـ«طوابق» غير متجانسة، وتحرم المواطنين من حقهم في التأمينات والخدمات العامة. كانت تلك أبرز خلاصات اجتماع اللجنة الاستشارية لـ«مشروع تعزيز قدرات المنظمات العمالية» الذي تديره منظمة العمل الدولية، والمنعقد يومَي الخميس والجمعة الماضيين في بيروت.
بات مستوى التمثيل النقابي بالكاد يلامس 7% من مجمل القوى العاملة، وباتت النقابات العمالية «محافظة»، هي نفسها لم تتغير منذ 30 عاماً وخطابها هو نفسه، والنقاشات حول تفعيل العمل النقابي هي نفسها أيضاً، بحسب ممثل الاتحاد الدولي للنقابات، وليد حمدان، الذي يجزم أن الهياكل النقابية القائمة غير صالحة لقيادة عملية التغيير، وأن أي محاولة تغييرية ستجد نفسها في «حالة صراعية» مع تلك الهياكل التي ستُفشل حتماً أي رهان على التغيير من داخلها، لا سيما «تحت شعار الوحدة الفارغ من المضمون بالكامل». رغم إقراره بأنه من القيادات النقابية «الأبدية»، يعبّر حمدان عن رفضه «الاحتكار النقابي»، دون مراجعة السياسات ومحاسبة القيادات في انتخابات «ديمقراطية» وشفافة. يسخر حمدان من تعويل النقابات على اتحادها الدولي أو المنظمات العمالية الدولية و«تبكّيها» لدى هذه الجهات، بدل العمل الجدي في الأوساط التي يُفترض أن تمثلها.
لم تفتح النقابات أبوابها لأصحاب المطالب المحقة كافة، قال حمدان، داعياً «كل من له قضية عادلة» لأن يكون «جزءاً لا يتجزأ» من النقابات، ومشيراً إلى أن ما يحصل فعلياً هو العكس من ذلك، حيث تعتبر القيادات النقابية تراخيص النقابات «امتيازات» تحميها بشراسة، وتغطي أو تساهم مع قوى السلطة في قمع الحركات النقابية المارقة، تحت شعار وحدة الحركة النقابية، في مقابل تجديد القوى السياسية المهيمنة للقيادات النقابية التابعة، والتي تقوم بدورها بتعزيز علاقة «الزبائنية» مع جمهورها الضيق من العمال، على غرار ما تفعل قوى السلطة. أما النتيجة فهي أن «غالبية الإضرابات تحصل على مستوى الأرض (أي بمبادرة من القواعد العمالية)، وليس بقرار من الاتحادات النقابية»، أشار حمدان، معتبراً أن ثمة حاجة ليس فقط لأطر نقابية جديدة، بل لخطط عمل وشعارات جديدة، قائلاً إن «الربيع العربي»، بغض النظر عن كونه «مؤامرة» أم لا، قد كسر حاجز الخوف من النزول إلى الشارع والمطالبة بالتغيير. يسأل حمدان إن كانت الحركة النقابية ستجدد نفسها لتتمكن من «السير أمام هذا التيار»، محذراً في الآن نفسه من أن «تزيين الهياكل القائمة وزخرفتها يهدف أساساً لمنع التحول للجديد»! في السياق، تساءل حمدان إن كانت الجهات (الأجنبية) التي تدعم الأطر النقابية تريد التغيير فعلاً، مشيراً إلى ظاهرة الصعود السريع لقيادات نقابية مغمورة، وإلى ظاهرة إغداق الأموال على أطر نقابية لاشتغالها بمواضيع معينة. يرفض حمدان تغييب البعد الوطني الأشمل عن القضايا العمالية، قائلاً إن السكوت عن الجرائم ضد العمال في فلسطين المحتلة خصوصاً، كما السكوت عن الجرائم ضد العمال الأجانب في بعض دول الخليج، هو «تواطؤ».
«يجب ألا تبقى الحركة العمالية أسيرة (هدف) تحسين شروط العمل»، قال رئيس “مركز البحوث والاستشارات كمال حمدان، مطالباً النقابات بالتحول إلى شريك في تقرير السياسات الكلية، كسياسة التأمينات والخدمات العامة، مبدياً أسفه لعدم مناقشة النقابات السياسات الضريبية ذات الصلة. العلة إذاً في تجزئة القضية الواحدة إلى مسائل متفرقة، واشتغال النقابات بهذه المسائل، كما الجمعيات، «على القطعة»، وبحسب التمويل المخصص لمشاريع ومواضيع محددة. يضاعف من أثر تجزئة موضوع الحراك العمالي واقع تقسيم الجسم العمالي إلى «طوابق» غير متجانسة، حسب تعبير حمدان. فموظفو المؤسسات والإدارات العامة مثلاً، وعديدهم حوالى 150 ألفاً، لهم امتيازات أبرزها نظام التقاعد؛ والأجراء النظاميون في القطاع الخاص، وعديدهم حوالى 400 ألفاً، لديهم «امتيازات» أدنى، لا يتمتعون جميعاً بها بالتساوي، كتعويض نهاية الخدمة وبدل النقل والمنح التعليمية؛ أما العمال غير النظاميين في القطاع الخاص، وعديدهم حوالى 250 ألفاً، فلا يتمتعون بأي من التأمينات أو التقديمات على الإطلاق، (ناهيك عن العمال غير النظاميين في القطاع العام نفسه، حيث يبلغ عدد المعلمين غير النظاميين في التعليم المهني وحده حوالى 11 ألف معلماً، بحسب مصدر نقابي)؛ وهناك «طابق» آخر شبه منفصل عن غيره، هو فئة العمال الأجانب، والذين كان يبلغ عديدهم حوالى 174 ألفاً قبل الهجرة الناتجة من الحرب السورية، يشرح حمدان.
سبب الفرز هذا هو تحول الاقتصاد السياسي للمجتمعات العربية إلى الرأسمالية «بشكل معوَق»، يتميز بالتبعية لـ«المتروبول»، أي لمراكز النظام الرأسمالي العالمي، الدول الغربية الصناعية خصوصاً، ما يحبس المجتمعات العربية في حلقة من «إعادة إنتاج نفسها بحالة دائمة من التأخر»، بحسب حمدان. أبرز محددات النمو في بلادنا (هو معدل) الاستهلاك، وليس (معدل) الاستثمار، كما هو سائد؛ و«الاستثمار» في بلادنا هو في غالبيته الساحقة في أنشطة غير منتجة وغير مستدامة ولا تخلق فرص العمل ولا تعطي إنتاجاً حقيقياً، كالمضاربات العقارية، يشرح حمدان. «قفزنا فوق الحلقة الصناعية» كمجتمعات عربية، وفوتنا بالتالي فرصة التطور التكنولوجي أيضاً، قال حمدان، مشيراً إلى أن بنية الخدمات متخلفة أيضاً، فهي «بمعظمها رثة» (أي أن حجمها صغير وهي غير ذات قيمة مضافة عالية، كمبيع التجزئة والمطاعم والخدمات الفنية)؛ أما محاولات التصنيع، كتلك التي جرت في مصر في عهد جمال عبد الناصر وفي الجزائر في عهد هواري بو مدين، جرى ضربها، و«المتروبول فك رقبة» هؤلاء، قال حمدان.